من الموصل إلى مؤتمر إسطنبول
قبيل انطلاق عمليات تحرير نينوى ،ساد شعور سياسي واسع بان تكون نتائج عمليات تحرير الارض العراقية ،مقدمة لوضع العملية السياسة في العراق على سكة جديدة ،يتجاوز فيها الخطاب السياسي والسلوك اليومي للسياسيين مرحلة المناكفة والشكوى من منطلقات طائفية ،لندلف الى مرحلة بناء الدولة على ضوء التجارب المستخلصة من المرحلة السياسية السابقة التي انتجت سقوط الموصل واخواتها ووقوع الكارثة التي نحن بصدد تجاوز اثارها.
كان المعول ان يرعوي السياسيون بعد مراجعة جادة وصريحة من اخطاء التجربة وان يتم استئناف النظر في الكثير من المقولات والمفاهيم التي ازدحم بها قاموس مابعد التغيير عام ٢٠٠٣ ،ليهدأ المجتمع من طنين شعارات وخطابات تعج بالصراخ الطائفي والانقسام المجتمعي وتقاتل الهويات الفرعية وتنافس المكونات سلطويا ،كان مؤملا ان تقود جهود المقاتلين ودماؤهم وتضحياتهم ،ومن خلفهم التعبئة النفسية و الخطاب الوطني ،واللحمة الاجتماعية الراسخة .. القوى السياسية الى تبني منهج جديد في التعاطي مع مشكلات البلاد ،تكون الموصل برمزية تحريرها ،منطلقا لعهد جديد من السلوك السياسي يستند على قاعدة التعدد والحوار والتضامن وتجاوز المشكلات الصغيرة واستثمار الشعور الوحدوي الذي انتجته ملحمة التحرير نحو مشروع بناء الامة -الدولة بعد التصدع الكبير الذي مهد وانتج دولة الخلافة الداعشية.
اعتقاد الكثير من الساسة والنخب بضرورة الاستعداد والتخطيط لما بعد داعش ، انتج حراكا بمشاريع ومسميات متعددة وبجوهر متقارب تارة بأسم المصالحة المجتمعية واخرى تحت عنوان التسوية الوطنية للانتهاء من مشروع المصالحة العتيد وبلوغ المرفأ الاخير ،بيد ان العقل السياسي المتشظي طائفيا ومكوناتيا واقلياتيا ،عاد ينتج مشاريعه بذات المنهج والخطاب،عراقيون يعقدون اجتماعاتهم بمساعدة دول واجهزة استخبارات وخبراء امن قومي ،اماكن الاجتماعات ذات المدن والعواصم التي ساهمت في تمزيق وشرذمة العراقيين على اساس طائفي او قومي ،واصبح لكل طائفة ومكون في العراق ، داعمين ورعاة واوصياء وعرابين ،وغدت المهمة المستحيلة هي بناء الجبهات والمواقف لا على اساس وطني بل وفق منظورات اقليمية وضمن نطاق استراتيجيات الامن القومي الذي انتقل من الرؤى القطرية الى الرؤية الدينية ،فنحن امام امن قومي سني في مقابل امن قومي شيعي ،وكل تقاطع في المصالح والاهداف امكن تجاوزه مؤقتا لاعادة ترسيم الاستراتيجيات توافقا مع المعطيات الدولية الجديدة ،فعلى قاعدة الخصومة مع ايران ،يغدو العراق ساحة تصفية الحسابات وتسجيل نقاط القوة وعلى قاعدة التناغم مع رؤية الادارة الامريكية الجديدة سيتم استثمار وتحريك اوراق عديدة داخل العراق لتقليم اظافر ايران وامتداداتها ومجالها الحيوي المتمثل بمن يماثلها مذهبيا وان لم يتطابق مع رؤاها وسياساتها في المنطقة .
مؤتمر اسطنبول الجديد الذي انعقد يومي السابع والثامن من اذار الحالي ،لم يخرج عن هذا الاطار ولم يخلع عباءة الانغلاق الطائفي والاستقواء بالجيران ،كان مفترضا بالمجتمعين وهم من وجوه المشاركة السياسية الحالية ان يعقدوا اجتماعهم على ارض العراق وبلا تسهيلات وترتيبات من اشقاء الانتماء المذهبي بل بدعم من اشقاء الوطن ،كان حريا بهم ان تكون بغداد او اربيل او السليمانية حاضنة لجهود ترتيب البيت السني وهو امر مشروع مادامت احزابنا وبيوتنا ذات اسيجة مذهبية وقومية ،اما ان تعود اجندات ماقبل سقوط الموصل الى الواجهة مجددا لمواجهة النفوذ الايراني واعتبار كل وجود شيعي هو عنصر قوة لايران واستنزاف الجهود لمواجهته ،فكأننا لم نقرأ ولم نراجع ولم نتدبر ،فلن تستطيع اي قوة بالارض ان تتملص من حقيقة كون الارهاب الذي تمدد وتغول كثيرا هو نتاج موروث عقدي وفكري وفقهي انتجته مدرسة اسلامية معروفة بتطرفها وتشددها وبالتالي من الاولى تشخيص المشكلة والاعتراف بجذورها وتمثلاتها السياسية واعادة بناء الاوطان وتحصين العقول من هذا الخطير العظيم ،اما ان تبذل الجهود وتبنى المواقف على اساس ان الارهاب (السني) حفزه التطرف الشيعي والاستراتيجية الايرانية وان سبيل الخلاص من ذلك يتم باضعاف الوجود الشيعي واشغاله بخصومة استنزافية دائمة فهو لن يحقق سوى رغبة بعض الجيران ولن تخسر منه ايران كثيرا بل ان ضريبته الكبرى سيكون استمرار الحريق العراقي وتطاير شرره واسعا في سوريا ولبنان والخليج الفارسي،وهو مالن يكون منهج عقلاء على الاطلاق.