إيديولوجيا الهيمنة / د. عبد الستار قاسم
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني، كتب ٢٥ كتاباً في السياسة والتاريخ كما نشرت له عشرات المقالات والدراسات في الصحف والدوريات العربية.
إيديولوجيا الهيمنة عنصرية لأنها تؤمن بتفوق شعب أو أمة على الأمم الأخرى، وهي تعصبية لأنها أيضاً ترى الحقيقة في نفسها، وهي عدوانية لأن تطويع الآخرين هو الهدف، ولا تجول بعيونها نحو زوايا أخرى. هي الحقيقة المطلقة وهي الحق المطلق، وكل ما عدا ذلك باطل ويجب التخلص منه
لدى روسيا مصالح، وتدخلها يبقى بحدود هذه المصالح بينما أميركا لا تسعى لتحقيق المصالح فقط
هناك العديد من الإيديولوجيات أو النظريات على المستوى العالمي التي من شأنها ترتيب الأوضاع والعلاقات في المجتمعات. الإيديولوجيا أو النظرية السياسية أفكار مترابطة ومتشابكة لتكوّن كلاً متكاملاً ينظم شؤون الحياة على مستوياتها كافة، وهي قناعات مسبقة يقول أصحاب بعضها إنها علمية، بينما يكتفي أصحاب نظريات أخرى بالقول إنها معيارية. لكن الإيديولوجيا تبقى بالنسبة للذين لا يدّعونها مجرد قناعات مبنية على مشاهدات لا ترتقي إلى مستوى الإثبات العلمي والتحقق، ومن الصعب أن تصلح كإطار جامع لإدارة المجتمعات لأنها تتناول الأمور من زاوية معينة مغمضة العيون عن زوايا أخرى.
تناول علماء السياسة العديد من النظريات بالدراسة والتمحيص والتحليل مثل النظريات الشيوعية والنفعية والأبيقورية والديمقراطية والأوليغارشية والتفويض الإلهي، لكن من الصعب أن نجد دراسات حول نظرية الهيمنة والمرتبطة إلى حد كبير بنظريتين مهمتين وهما نظرية القوة في العلاقات الدولية ونظرية المنفعة في العلاقات المجتمعية. في هذا المقال، أتعرض لأهم سمات هذه النظرية وانعكاساتها على الواقع الإنساني العالمي.
دأب أهل الغرب أو أصحاب النظرية الرأسمالية والرأسمالية الليبيرالية الحديث عن مهاجمة الإيديولوجيات باعتبارها نظريات شمولية استبدادية يؤمن أصحابها أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة التي لا تتقدمها حقيقة أخرى، وهم يسعون دائماً لتطويع العالم وفق طروحاتهم الفكرية التي ترتقي إلى الطروحات العنصرية التعصبية الإنغلاقية والتي تنتهي بالكوارث على الإنسان.
لكن الغرب نفسه لم يطرح على نفسه السؤال ما إذا كان هو عنصرياً تعصبياً أم لا. وهنا أرى أن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً تتبنى نظرية تعصبية منغلقة وعدوانية وهي نظرية الهيمنة، لكن من دون أن تجاهر بها، وتتبنى خططاً ومقاربات في العلاقات الدولية لتشكل أدوات الهيمنة. صحيح أن الولايات المتحدة لم تطرح نظريتها في الهيمنة علناً وبصورة متكاملة، لكننا نستدل على التمسك بها من خلال العديد من التصريحات والمقاربات العملية لها على المستوى العالمي.
أطرح هذه المسألة الآن لأن العديد من الأقلام العربية ووسائل الإعلام تنبري لانتقاد روسيا وإيران على أنهما تسعيان للهيمنة على الوطن العربي، وهناك سيل من التهم يتدفق ضد هاتين الدولتين وما تقومان به خصوصاً في سوريا. يبدو أن غيرة العديد من الكتاب على الوطن والأمة موسمية أو انتقائية إلى درجة أنهم تغافلوا لسنين طويلة عن هيمنة أهل الغرب على الوطن والمواطن، ولم يجرؤوا على تحدي الهيمنة المالية والأمنية الأميركية على العرب والعروبة بسبب سياسة الأنظمة العربية الراغبة في بقاء الهيمنة الأميركية. أي أن العديد من الكتابات العربية لم تكن بدافع الرغبة في تحقيق الاستقلال وتحرير الأمة من نير الاستعمار، وإنما بدافع النفاق لأصحاب السلطان الذين يوالون أهل الغرب.
نظرية الهيمنة تقوم على فكرة أساسية وهي أن أصحابها يعتبرون أنفسهم الأرقى من كل الناس، وأن أنظمتهم الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية هي الأرقى والأفضل، وأن حال العالم سيصلح عندما تقتنع الأمم بما يطرحونه وتلتزم به. هم أصحاب الفكر الاستعماري التقليدي الذي تطور في مراتب استعمارية متطورة إلى أن وصل إلى الاستعمار التربوي والثقافي الذي يسعى إلى التمدد من خلال تحويل الناس عن ثقافاتهم وأنظمتهم الفكرية والأخلاقية ليصبحوا أميركيين أو استعماريين بالتربية والثقافة. وبدل أن ينهمك الاستعماريون في تجنيد الطاقات من أجل السيطرة على الآخرين وثرواتهم ومقدراتهم يسيطرون عليهم تلقائياً من حيث أن الشعوب الأخرى تكون قد تأدلجت ثقافياً وفكرياً بطريقة تدافع فيها عن سيدها من دون وسائط أو محفزات أو مغريات. وهذا بحد ذاته أقل أنواع الهيمنة كلفة من الناحيتين المادية والبشرية.
إيديولوجيا الهيمنة عنصرية لأنها تؤمن بتفوق شعب أو أمة على الأمم الأخرى، وهي تعصبية لأنها أيضاً ترى الحقيقة في نفسها، وهي عدوانية لأن تطويع الآخرين هو الهدف، ولا تجول بعيونها نحو زوايا أخرى. هي الحقيقة المطلقة وهي الحق المطلق، وكل ما عدا ذلك باطل ويجب التخلص منه. وفي سبيل ذلك، لا بد أن تسعى الدولة صاحبة إيديولوجيا الهيمنة إلى مراكمة القوة باستمرار لتبقى دائماً ذات قوة تفوق التحدي تمكنها من كسر أي تحد آخر قد يطرأ على الساحة الدولية. أما محركها الأول فهو المنفعة، أو وفق تعاليم الرأسمالية: القيمة الأخلاقية العليا دائماً هي تحقيق الأرباح، وهي قيمة تحكم ما عداها من القيم الفرعية والثانوية والهامشية. إيديولوجيا الهيمنة لا تؤمن بقيم أخلاقية كونية أو إنسانية، وإنما ترتبط أخلاقها بالمصلحة، وهي متموجة وفق تموج المصالح وتقلبها.
هي تدعو إلى الالتزام بالقوانين الدولية، لكنها سرعان ما تدير ظهرها لهذه القوانين إذا تناقضت مع مصالحها، أو لم تعد تخدم مصالحها. ومن هذا المنطلق، دولة الهيمنة هي دولة إرهاب، وأفعالها تولد الإرهاب لدى الذين يرفضون الانصياع لإرادة الآخرين. أي أن الدول الاستعمارية القائمة الآن والتي تقف إعلامياً ضد الإرهاب هي إرهابية، ولا تتردد في دعم الإرهاب إذا تطلبت مصالحها ذلك. وهذه تجربتنا نحن في المنطقة العربية الإسلامية مع الولايات المتحدة. لقد دعمت أميركا الإرهاب والإرهابيين عندما دعت مصلحتها ومصلحة الصهاينة ذلك، وما زالت حتى الآن ترى في الإرهابيين إحدى الأدوات التي يمكن تشغيلها لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية وعسكرية.
فإذا قارنا بين ما تقوم به روسيا وما تقوم به أميركا، نرى أن لدى روسيا مصالح، وتدخلها يبقى بحدود هذه المصالح ولا يرتقي إلى أبعد من ذلك، بينما أميركا لا تسعى لتحقيق المصالح فقط، وإنما هي تعمل على مسح سيادة الدول، وتحويل شعوبها ثقافياً لخدمة أميركا. روسيا تحترم ثقافات الشعوب، أما أميركا فتتعامل مع الثقافات على أنها متخلفة وقاصرة ويجب تبديلها. وإلا لماذا تقيم أميركا كل هذه المراكز والجمعيات والمنظمات غير الحكومية وتغدق عليها كل هذه الأموال؟
أصحاب فكر الهيمنة فوقيون، ويعانون من عقدة الفوقية، وهم صلفون متعجرفون، ولا يفهمون لغة المحبة والسلام والأمان إلا إذا أجبروا على ذلك. والتعامل معهم يتطلب خبراء في علم النفس الذين قد يكون بمقدورهم وضع استراتيجية في كيفية التعامل معهم. الارتجالية في التعامل معهم قد تكون مدمرة، والأفضل وضع أسس علمية عند مقاربتهم.
والمؤشر على إيديولوجيا الهيمنة بسيط ومشمول في السؤال التالي: هل يوجد مشكلة في العالم ليسا الولايات المتحدة طرفاً فيها؟ أو لا تحشر أنفها فيها؟
من هنا نفهم لماذا لا تقبل أميركا ارتقاء شأن أي دولة فوق شأنها هي. إنها ترى في نفسها سقف العالم، ويجب أن تمر مختلف القضايا العالمية وحتى المحلية من تحت يدها هي. وبما أن تسوية الوضع السوري خرجت من تحت إبطها، فلا يمكن إلا أن تعمل على تخريبها والإبقاء على سيل الدم السوري. لم يكن الهجوم الأميركي على مطار الشعيرات بدافع الحرص على نفوس السوريين، إنما كان يهدف إلى تقزيم روسيا وإفشال الحلول السياسية المطروحة حتى لو كان لحساب الإرهاب الذي تدعي أميركا أنها تحاربه. الأميركيون يكسبون كلما طالت الحروب في سوريا وغير سوريا، ومواطنوهم في النهاية ليسوا الضحايا.