تسوية سياسية و اقتصادية جديدة للعراق .. كيف يمكن الإصلاح نموذجا لبقية الشرق الاوسط / برهم صالح يكتب
لقد ساعدت القيادة الاميركية للتحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” العراقَ عسكرياً وبشكل فاعل حتى كاد يوشك على هزيمة هذا التنظيم بعد ثلاث سنوات من سيطرته على ثلث البلد. وبفضل جهود قوات الامن العراقية والبيشمركة والحشد الشعبي، سيطرد “داعش” قريباً من الموصل. ولابد من الاشارة الى جهود رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي في قيادة الحملة ، والتي تستحق التقدير.
لكن العراق يحتاج الى ما هو ابعد من الدعم العسكري، بل الحاجة باتت ماسة الى مساعدة المكونات العراقية في صوغ عقد سياسي جديد فيما بينها وتغيير البنية الاقتصادية للبلاد.
لقد فشل النظام السياسي الذي تم تشييده في اعقاب اسقاط صدام. فاليوم وبدلا من النظام الديموقراطي الليبرالي الذي حلمنا به جميعاً، تحولت الحكومة الى منظومة اقرب الى نهب لموارد البلد و تهيمن عليها الانقسامات العرقية-الطائفية.
لقد بات من الضروري ان تباشر المكونات العراقية الرئيسية بحوار جدي و صريح للتوصل الى عقد سياسي جديد او تسوية بنيوية جديدة.
كما ان الضرورة تتطلب ان تبدأ هذه العملية بمفاوضات بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان، اذ ان على الجانبين ان يقررا اذا كانا يريدان البقاء سويةً في بلد واحد ام لا. والمكان الذي يُقرر فيه هذا الأمر هو بغداد، وليس انقرة او طهران او واشنطن.
ومن البديهي القول ان معظم الكرد يطمحون الى الاستقلال، و إن كان القرار هو الانفصال، فينبغي ان يُنفذ هذا الانفصال عبر خارطة طريق مناسبة، شبيهة بالنموذج التشيكوسلوفاكي وليس بنموذج شمال قبرص او جنوب السودان، حيث يتم التفاوض في بغداد. وقد تجد القيادة الكردية ايضا الفائدة في البقاء جزءا من عراق كونفيدرالي جديد تتمتع فيه كردستان بسلطات سيادية مع الاحتفاظ بعناصر مشتركة للاطر الامنية و الاقتصادية. و على القيادة الكردية الان ان تعمل بجدية لحل الازمات الاقتصاد والسياسة و الحوكمة التي يعاني منها اقليم كردستان.
تحتاج المكونات العراقية العربية من سنة وشيعة ان تقرر بدورها ترتيباتها السياسية المستقبلية. فالاحزاب الشيعية تهيمن اليوم على الحكومة وهي تخشى ان يقود تقاسم السلطة الى عودة استئثار “السنة” بالحكم. من الصحيح القول انه ليس لدى السنة قيادة متحدة ذات مصداقية تمثلهم و تتحدى المتطرفين، لكن على الشيعة والكرد ان يقدروا ان تهميش السنة يمثل احد العوامل الاساسية المغذية للارهاب. في الوقت نفسه على القوى السنية ان تقرر انها الخاسر الاكبر من التطرف.
ان التنمية الاقتصادية هو المهمة الرئيسية الثانية التي تواجه الزعماء العراقيين بعد الانتهاء من تنظيم “داعش”. لم تترجم الزيادة الكبيرة في انتاج النفط حتى اليوم الى حياة افضل للعراقيين، حيث استخدمت معظم عائدات النفط لدفع رواتب القطاع العام المتضخم.
ان احد الطرق لتخفيف اثار الاقتصاد الريعي الفاشل هو تأسيس مجلس لتخطيط وتنفيذ مشاريع البنى التحتية في العراق.
يحتاج مثل هذا المجلس التي يمكن تسميته ب(مجلس التنمية والاستثمار)، على غرار مجلس الاعمار قبل ثورة١٩٥٨، الى ان ينال مصادقة الحكومة عليه، لكن من الضروري ان يكون مستقلاً عنها ويتم تمويل مشاريعه من خلال حصة سنوية من عائدات النفط والغاز ضمن الموازنة العامة. وان ينسق هذا المجلس مع مستثمري القطاع الخاص والمانحين الدوليين لتطوير وتنفيذ خطط شاملة للانفاق على المشاريع الكبرى في البلد بما يدعم التوظيف ويشجع القطاعات الاستثمارية وانتاج انتعاش اقتصادي واسع وملموس.
ان الامر الاساسي لضمان نجاح مجلس التنمية والاستثمار هذا هو ان يكون في مأمن من التدخل السياسي المباشر وان لا يكون تابعا للفرقاء السياسيين، فمسؤوليته ينبغي ان تكون امام المستفيدين منه ،اي الشعب العراقي والمستثمرين.
يمكن ان يكون العراق مثالا واعداً لانتاج بنية اقتصادية وامنية جديدة للشرق الاوسط بما يمثل تحولاً جذرياً على اساس المصالح الاقتصادية المشتركة. ويمكن لهذا ان يكون شبيها بمشروع “مارشال” جديد خاص بالعراق والمنطقة.
الامر يعود الى العراقيين اولاً ، فعليهم ان يتفاوضوا بشأن تسويات كهذه، لكن لن ينجح الحوار بين العراقيين من دون دعم قوى اقليمية كالسعودية وايران و تركيا، والاهم من ذلك دعم الولايات المتحدة والقوى الدولية الاخرى مثل روسيا واوربا التي تتشارك جميعها بوجود مصلحة لها في استئصال الارهاب والتطرف.
امام هذا الطرح ، سيحاجج الكثيرون بان الاميركيين وشركائهم في التحالف قد دفعوا الكثير من الدماء والاموال من اجل تحقيق استقرار العراق من دون جدوى.
لكن لواشنطن والمجتمع الدولي مصلحة في دعم تسوية كبرى كهذه لانها ستساعد في اخر المطاف على داعش والتطرف.
في المحصلة فان اصلاح الاوضاع في العراق سيقود بلا شك الى اصلاح اكبر يشمل منطقة الشرق الاوسط عموماً ويساعد في استقرار العالم.
ولكن تحقيق مثل هذا الاصلاح الشامل لن يكون انجازا سهلاً ، في حال قرر حكماء من اصحاب النظر البعيد تبنيه والعمل على تنفيذه.