الكاتب اللبناني مصطفى زين يكتب عن اوهام بارزاني لاتصنع دولة
اعتقد مسعود بارزاني أنه يستطيع اللعب على التناقضات وسط الفوضى التي تضرب الشرق الأوسط ويقظة العصبيات القومية والطائفية، والمستعمرين القدماء والجدد الجاهزين لإعادة رسم الخرائط بالحديد والنار. صادق تركيا وإسرائيل، ولم يعادِ إيران. أصبح الناطق باسم الولايات المتحدة في العراق. لم تبخل عليه واشنطن بشيء، من تدريب ميليشياته وتسليحها والدفاع عن إقليمه إلى دعمه سياسياً في كل مساعيه (زلماي خليل زاد مقيم في أربيل). فرنسا حافظت على احتضانه، من أيام ميتران وزوجته دانيال في ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم. روسيا، هي الأخرى، حافظت على علاقاتها معه. رجب طيب أردوغان عامله كرئيس دولة كبرى، كان يستقبله وعلم كردستان مرفوع إلى جانبه، ويرسل وزير خارجيته إلى أربيل من دون المرور ببغداد. ابنه بلال ونجل بارزاني مسرور شريكان في تجارة النفط. للشركات التركية في الإقليم الأولوية.
هذا بعض من العلاقات الإقليمية والدولية التي نسجها بارزاني، بعد الاحتلال الأميركي ومشاركته في حكم «العراق الديموقراطي الجديد». أما في داخل إقليمه فحجّم كل القبائل المناوئة، خصوصاً الطالبانيين، وأبعد حركة «التغيير» المعارضة، وأغلق البرلمان، وخاض حرباً أهلية ضد حزب «الاتحاد الوطني». و «كرّد» كركوك، بحجة أن النظام السابق «عرّبها». واضطهد المسيحيين، ما اضطر معظمهم إلى الهجرة وترك أراضيهم وممتلكاتهم للأكراد. كل ذلك في ظل حملة إعلامية واسعة، شاركت فيها صحف عالمية كبرى في تحقيقات عن تسامح الأكراد وديموقراطيتهم التي يجب دعمها. أما عن الفساد في إدارته والمحسوبيات وإسناد المناصب إلى رجال قبيلته فالحديث يطول.
علاقة بارزاني مع بغداد لم تكن جيدة طوال السنوات الماضية، وكان الراحل جلال طالباني يلعب دور الوسيط بينهما. ووجد في ظهور «داعش» وتمدده فرصة ثمينة للمشاركة في إضعاف الحكومة، وبعد انهيار الجيش في الموصل لم تحرك «البيشمركة» التابعة له ساكناً إلا عندما وصل التنظيم إلى أبواب أربيل، عندها فقط طلب دعماً أميركياً فأوقفوا الهجوم على عاصمته. وبعدما استعاد الجيش قوته وبدأ تحرير المناطق التي احتلها التنظيم، تحركت «البيشمركة» وبدأت قضم سهل نينوى وضمه إلى الإقليم، وتمددت في كركوك والمناطق الأخرى. أي أنها كانت تقاتل من أجل إعادة رسم حدود الإقليم، استعداداً للانفصال عن العراق، بدعم إسرائيلي واضح، فالدولة العبرية تخطط منذ عقود لإقامة قواعد لها في شمال العراق على مقربة من الحدود الإيرانية بالتعاون مع البارزانيين، وكي تضعف بغداد أكثر.
اعتقد بارزاني أن أصدقاءه الدوليين، خصوصاً الأميركيين والفرنسيين، سيهبون للدفاع عنه ويدوّلون قضيته ويدافعون عنه، وأنه يستطيع تحييد أردوغان الذي لديه مصالح اقتصادية كبيرة في كردستان، وأن إيران المعزولة في محيطها لن تستطيع نجدة العبادي. واعتقد أن الغلبة التي حققها بالقوة في الإقليم وتحجيم معارضيه، فضلاً عن ضعف بغداد، تتيح له الانفصال وإعلان دولته ووضْع الجميع أمام الأمر الواقع. لكن تبين أنه كان متوهماً، وأن قراءته للأحداث كانت خطأً. أصدقاؤه تخلوا عنه، عدا إسرائيل. الحكومة الاتحادية ليست ضعيفة. أردوغان لا يستطيع الموافقة على انفصاله خوفاً من تقسيم تركيا. وإيران لم تنكفئ. أكراد الإقليم الذين قمعهم طوال سنوات كانوا ينتظرون الفرصة لاستعادة شيء من حريتهم، والمحافظة على بعض المكاسب التي حققوها خلال السنوات الماضية. كركوك التي كان يعوّل على نفطها لتمويل دولته لم تعد تحت سيطرته.
هل سيتراجع بارزاني عن هذا الخطأ التاريخي؟ هل ينتفض الأكراد ضده أم أنه سيستمر في حالة الإنكار؟ هل سيقتنع بأنه كان أداة وليس في حجم تقرير مصير العراق ومحيطه الإيراني والتركي والسوري، وبأن الدول الكبرى لا يهمها مصير الشعوب ولا الصداقات عندما يتعلق الأمر بمصالحها؟
تجارب الماضي مع آل بارزاني تؤكد أنه لن يعترف بهزيمته، ولن يتراجع، فهو مثل أي ديكتاتور صغير أو زعيم قبيلة سيحاول شد عصب رعاياه للمحافظة على مكانته، وأي تحرك ضده في الإقليم ينذر بتجدد الحرب القبلية وتقسيم كردستان بدلاً من تقسيم العراق.
مصير الأكراد ليس مرتبطاً بصداقاتهم الخارجية. وانضمامهم إلى سائر شعوب المنطقة في السعي إلى الحرية ينقذهم وينقذ هذه الشعوب. أما العصبية القومية ومعاداة الآخرين فستحولهم إلى كيانات أشبه بإسرائيل تعقد مصالحات مع الأنظمة وتعجز مع هذه الأنظمة عن اكتساب شرعية وجودها.
أوهام بارزاني لا تصنع دولة.