عقيدة ترامب.. تآكل أميركا من الداخل !! كاتب سوري يتحدث ..
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أيام وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، وهي الوثيقة التي تنتجها عادة مؤسسات الدولة الأميركية مع إدارة الرئيس، وتشكل دليل عمل للسياسة الخارجية الأميركية للسنوات القادمة، وتكونت هذه الوثيقة من أربعة محاور أساسية هي: حماية أميركا، زيادة الازدهار فيها، إظهار السلام من خلال القوة، وزيادة النفوذ الأميركي في عالم شديد المنافسة.
تشير الوثيقة إلى عالم جديد شديد المنافسة، وأن على الولايات المتحدة الأميركية أن تقاتل على كل الجبهات لحماية سيادتها، والدفاع عنها من الأعداء، والأصدقاء على حد سواء! وما يقصد هنا أن أميركا مستعدة للمخاطرة باتفاقات مع دول كانت جزءاً أساسياً من السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب الباردة، وهو ما فعله ترامب بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة عبر الباسيفيكي، بمعنى آخر الولايات المتحدة سوف تعمل لتحقيق مصالحها، ولو كان ذلك على حساب الحلفاء وهذه قضية بدأت تشكل نقطة افتراق مع الأوروبيين، وظهرت في موضوع الاتفاق النووي مع إيران، وستظهر في قضايا أخرى.
لكن الأهم باختصار هو أن إستراتيجية إدارة ترامب للأمن القومي التي تحتاج بالتأكيد لقراءة دقيقة أكثر، أبرزت ثلاثة مخاطر وتهديدات للأمن القومي الأميركي وهي: «طموحات روسيا، والصين، والدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية (الديمقراطية) والتنظيمات الجهادية الدولية»، ويبدو واضحاً أن أميركا أقرت في وثيقتها بوجود منافسين لها، حين قال ترامب: «سواء كنا نحب ذلك أم لا، فنحن نشارك في حقبة جديدة من المنافسة» ويتابع: «إننا ندرك أن الضعف هو الطريق الأمثل للصراع، والقوة التي لا تضاهى هي أهم وسائل الدفاع»، داعياً للشراكة، ولكن ضمن أولوية تحقيق المصالح الأميركية.
موسكو ردت على هذه الوثيقة حينما اعتبر الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن هناك طابعاً إمبريالياً لها، وعدم رغبة في التخلي عن العالم الأحادي القطب، ولكنه رأى أن هناك إمكانيات للتعاون في قضايا مشتركة.
وأما بكين فقد اتهم الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية ترامب بتبني «منهج تفكير الحرب الباردة»، داعياً واشنطن للتخلي عن منهج التفكير هذا القائم على اللعبة الصفرية، لأنها إذا لم تفعل فإنها سوف تؤذي نفسها فقط، وفي رسالة رد قوية أكد الناطق الصيني أن بكين «قادرة على حماية سيادتها، وأمنها وحقها في التطور، ولا يجب على أي أحد أن يحلم متوقعاً منها أن تبتلع ثمار أذية مصالحها»!
الاتهامات الأميركية وردت في الوثيقة كما يلي: «الصين وروسيا تتحديان القوة، النفوذ، والمصالح الأميركية، وتحاولان تقليص الأمن والازدهار الأميركي، وهما مصممتان على جعل الاقتصادات أقل حرية، وأقل عدالة، وتنميان قدراتهما العسكرية، كما تعملان على التحكم بالمعلومات، وقواعدها لقمع مجتمعاتها، وتوسيع نفوذها».
وبما أن الوثيقة رأت أن الأمن الاقتصادي لأميركا هو أمن قومي فإنها دعت إلى «عمل حازم ضد الممارسات التجارية غير العادلة، وسرقة الملكيات الفكرية» وهي قضية ترتبط بالصين بشكل رئيسي.
وإضافة إلى الصين، وروسيا، أبرزت الوثيقة الموقف مما سمته «الدول المارقة، إيران، وكوريا الشمالية» حيث اعتبرتهما تهديداً للأمن القومي الأميركي.
وإذا اكتفينا بهذه اللمحات الرئيسية من الوثيقة الأميركية، فإن بعض الكتاب الأميركيين يصفونها بـ«المهزلة» إذ يشير الكاتب الأميركي روجر كوهن في موقع «كليرنيغ انوفرميشن هاوس» إلى كلام قاله سفير أوروبي له: إنه «من المستحيل أن تعرف ما موقف الولايات المتحدة تجاه عدد من القضايا» ويتابع السفير الأوروبي كلامه ساخراً: «نحن ببساطة يمكن أن نذهب ونحن نيام إلى الحرب»! ويوضح روجر كوهن أن التناقضات في السياسة الأميركية والمواقف غريبة، فلقد قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون قبل أسبوع أن «الولايات المتحدة مستعدة للمحادثات مع كوريا الشمالية في أي وقت ترغب فيه، ومستعدون لعقد أول اجتماع من دون شروط مسبقة»، وكان هذا التصريح يوم الخميس الماضي أمام المجلس الأطلسي، ويوم الجمعة قال تيلرسون في الأمم المتحدة إن هناك شروطاً للمباحثات منها توقف كوريا الشمالية عن السلوك التهديدي، وإن الضغط سوف يستمر حتى نزع السلاح النووي! وهذا أمر، حسب كوهن، لن يحدث على أرض الواقع، ما يعني أنه لا محادثات مع كوريا الشمالية.
وسبق لترامب أن قال إن تيلرسون يُضيع وقته في محاولة «التفاوض مع رجل الصاروخ الصغير» حسب تعبيره.
وأما بالنسبة لإيران فيشير كوهن إلى محاولات التنصل من الاتفاق النووي، والخلط بينه وبين السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة، ومواقف إيران تجاه القضايا الأساسية، واتهامها بالكثير من الموبقات، وهي أمور لا علاقة لها بالاتفاق النووي بما في ذلك قول مندوبة ترامب في الأمم المتحدة نيكي هايلي: إن «الاتفاق النووي لم يعدل من سلوك النظام الإيراني في مناطق أخرى» وهو أمر غريب عجيب لأن الاتفاق خاص بالشأن النووي فقط.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك المواقف تجاه الحرب على سورية، وتبدل المواقف الأميركية من الانسحاب فور القضاء على داعش، إلى البقاء حتى التأكد من الحل السياسي، والسعي لإعادة إنتاج مجموعات إرهابية جديدة باسم «جيش سورية الجديد»، وزيادة تسليح الميليشيات في الشمال السوري، فإننا أمام كذب أميركي ممجوج، وحسب كوهن فإن إدارة ترامب هي خارج المكان، ولا ترى ربحاً من الدبلوماسية، إذ قال ترامب قبل أسبوع «لا رابحين» في الدبلوماسية، وبالتالي: يخلص كوهن إلى أنه لا إستراتيجية أمن قومي أميركي، إنما هو مجرد «تفجر للغضب»!
إذاً أين تكمن مشكلة أميركا؟
الحقيقة إن التقصي والبحث يظهر تماماً أن مشاكل أميركا الداخلية يراد دائماً تصديرها، وحلها خارج أميركا، من دون إعارة الانتباه للداخل الأميركي الذي يفترض أن ترامب أتى للسلطة ليصلح هذا المسار الكارثي داخل الولايات المتحدة، إذ نشرت يوم الخميس الماضي مجموعة من الباحثين الأميركيين تقريرها السنوي حول «عدم المساواة» في العالم، وأظهر التقرير أن الولايات المتحدة بعيدة عن المساواة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة في أوروبا، وبقية العالم، حيث يشير التقرير إلى أن حصة الـ«1 بالمئة» من الأعلى دخلاً في أميركا قد ازدادت من «10 بالمئة» عام 1980، إلى 20 بالمئة عام 2016، بينما تقلصت حصة الـ50 بالمئة من أبناء الشعب الأميركي في القاعدة من 20 بالمئة إلى 13 بالمئة خلال نفسها الفترة، ويتابع التقرير: إن 90 بالمئة من أبناء الشعب الأميركي تتحكم اليوم بـ27 بالمئة من الثروة، مقارنة بـ40 بالمئة قبل ثلاثة عقود.
كما ظهر مؤشر آخر من داخل أميركا قدمه المقرر الخاص للأمم المتحدة فيليب آلستون حول «الفقر المدقع، وحقوق الإنسان» في تقرير نشر مؤخراً، قال فيه بالحرف: «إن الفقر المدقع المنتشر وسط البذخ الذي لا يصدق في الولايات المتحدة هو انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية»، ويتابع: «لا يوجد أي بلد متطور آخر فيه هذا العدد الكبير من الناخبين المحرومين، وهذا العدد الكبير من الناخبين العاديين يمتلكون تأثيراً قليلاً في مخرجات السياسية» ما يعني أن التركيز المفرط للثروة قد أدى لتآكل أسس الديمقراطية الأميركية.
ويرى خبراء أميركيون أن تزايد عدم العدالة، وعدم المساواة بهذا الشكل الكبير سوف يؤثر في مستقبل المجتمع الأميركي، وقد نشر أحد المواقع الأميركية رقماً ضخماً لعدد الأميركيين الذين يعانون فقدان الأمن الغذائي، إذ يصل عدد هؤلاء إلى 50 مليون إنسان، ويعاني 1 من كل 6 من الأطفال في أميركا من ضعف الأمن الغذائي.
ويحلل الخبراء الأميركيين الأمر بأنه خلال النصف الأول من القرن الماضي استجابت الطبقة الحاكمة الأميركية لقضايا الصراع الطبقي وتهديدات انتشار الفكر الاشتراكي من الاتحاد السوفياتي عبر إصلاحات اجتماعية منذ زمن روزفلت أي الضمان الاجتماعي، وبرامج الضمان الصحي، والمساعدة الطبية في الستينيات، لكن هذه الإجراءات طبقت ضمن إطار المحافظة على النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم على الملكية الخاصة للبنوك، والشركات، وعلى السعي لتقوية الموقع المهيمن للرأسمالية الأميركية.
ويرى هؤلاء أن التحول في إستراتيجية الطبقة الحاكمة قد أدى إلى تحول في موقع الرأسمالية الأميركية، فخلال نصف القرن الماضي، تسببت الطبقة الحاكمة في تراجع موقعها الاقتصادي في الخارج من خلال العدوان العسكري، والتدخل في شؤون الدول، وداخلياً من خلال إعادة التوزيع التصاعدي للموارد من الكتلة السكانية الكبيرة باتجاه الأوليغاوشية المالية، الأمر الذي يكشف بوضوح سبب عدم المساواة الاجتماعية، ونسبة الـ1 بالمئة التي حافظت، وزادت نسبة دخلها من الثروة.
وللتوضيح هنا فإن الأمر لم يختلف كثيراً حسب هؤلاء الخبراء بين جمهوريين وديمقراطيين، إذ ترى «نيويورك تايمز» أن ازدياد عدم المساواة الكبير داخل المجتمع الأميركي قد تم خلال الثلاثين عاماً الأخيرة التي حكم خلالها الديمقراطيون 16 عاماً خلال فترتي بيل كلينتون وباراك أوباما والجمهوريون 12 عاماً بين جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، لكن المسار استمر بالتراجع.
ماذا يعني هذا الكلام؟
إنه يعني أن أميركا الظالمة وغير العادلة تجاه مواطنيها، لا يمكن أن تكون عادلة تجاه قضايا الشعوب، وحريتها، وديمقراطيتها، ولا تريد أن تقبل بمنافسين جدد، فالنخبة الحاكمة الأميركية تعتقد أن الروس والصينيين، والإيرانيين، والسوريين، والكوريين، وغيرهم كُثر في هذا العالم يجب أن يقبلوا ما يقبله مواطنو الولايات المتحدة من ظلم، وتهميش، وكذبة الحلم الأميركي، والقرن الأميركي.
مشكلة أميركا كما يبدو، أنها تتآكل من الداخل، وتحاول عبر رأسماليتها المتوحشة حل هذا التآكل من خلال اتهام الآخرين، وتحميلهم مسؤولية تراجع نفوذ أميركا، من دون أن يدرك هؤلاء أن القوة العسكرية لم تعد كافية للهيمنة ولو بلغ الإنفاق «700» مليار دولار سنوياً، فعوامل ضعف أميركا داخلية، والامبراطوريات كما قالت رايس ذات مرة «تنهار، وتنهار فقط، من دون سابق إنذار».
هذا كلام سابق لأوانه، ولكن مؤشرات كثيرة توحي بذلك على المدى المتوسط.
بسام ابو عبد الله