عطوان يتسائل: هل قررت الاستخبارات الأميركية الإطاحة بمحمد بن سلمان؟
“جريمة القرن” التي تمثلت في اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول لم تلحق الضرر فقط بالأمير محمد بن سلمان، المتهم الرئيسي بالوقوف خلفها، وإرسال “فريق الموت” المكون من 15 مسؤولاً من المقربين لتنفيذها، إنما أيضاً بعناصر رئيسية في استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أبرزها “صفقة القرن” المتعلقة بتصفية القضية الفلسطينية، وكذلك الحصار المفروض على إيران، وأخيراً تخفيض أسعار النفط.
الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه الرئيس دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر اللذان وضعا هذه الاستراتيجية، أنهما جعلا الأمير بن سلمان محورها الرئيسي، ومع اقتراب حبل الإدانة من رقبة الأخير، فإن هذه الاستراتيجية تواجه الانهيار الكامل، إن لم تكن قد انهارت فعلاً.
التقارير التي تأتي من واشنطن وتنشرها هذه الأيام عدة صحف ووكالات أنباء عالمية موثوقة، مثل “رويترز” و”الواشنطن بوست” و”وول ستريت جورنال” التي أكدت أن وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأمير بن سلمان هو الذي أصدر الأوامر باغتيال الخاشقجي، اعتماداً على تسجيلات صوتية حصلت عليها من الجانب التركي، تضع الرئيس ترامب وصهره، اللذين يريدان الحفاظ على الأمير بن سلمان في السلطة في موضع حرج، ويائس، وتبني الرواية السعودية الرسمية التي تنفي أي دور لولي العهد السعودي فيها، وتلقي باللوم على رئيس فريق الموت الذي أعطى الأوامر بالاغتيال دون تسميته.
***
الأتراك الذين أبقوا هذه الجريمة حية، تحتل العناوين الرئيسية، وحولوها إلى قضية أميركية دولية تبنوا استراتيجية مدروسة بذكاء من خلال تسليمهم السيدة جينا هاسبل، رئيسة وكالة الاستخبارات الأميركية، نسخاً موثقة للتسجيلات حول كيفية حدوث عملية القتل التي نفذت في مكتب القنصل السعودي محمد العتبي، والأخير طالب، وحسب التسجيلات، الفريق المنفذ بالتخلص من الجثة على وجه السرعة، وتنظيف القنصلية من الأدلة، وغادر إسطنبول بعد بضعة أيام من التنفيذ عائداً إلى الرياض خوفاً من الاعتقال، والخضوع للتحقيق، ولكنه لن ينجو من المساءلة والعقاب.
من يعرف المملكة العربية السعودية، ومعظم الدول العربية الأخرى في المنطقة، يدرك جيداً أن تنفيذ جريمة بالطريقة التي نفذت بها، وإرسال “فريق موت” من 15 شخصاً، بينهم طبيب شرعي، وخبير بالسموم على متن طائرتين خاصتين، ومجهز بحقن ومواد تخدير، وأسيد حارق، ومنشار كهربائي، لا يمكن أن يتم دون تخطيط مسبق، وبتعليمات واضحة من شخصية عالية المستوى في الدولة في وزن محمد بن سلمان، ولي العهد، الحاكم الفعلي للبلاد.
فإذا كانت عمليات الاغتيال حتى في الدول التي تدعي الديمقراطية مثل إسرائيل ودول أوروبية أخرى، لا يمكن إن تتم إلا بموافقة رئيس الوزراء، وتوقيعه رسميا على أوامر تنفيذها، فلماذا لا يكون الحال كذلك في دول يحكمها رجل واحد يتحكم بكل السلطات، يريد الانتقام من كل معارضيه، سواء كانوا في الداخل أو الخارج، أمراء أو من العامة، ويعتقد أنه سيكون فوق القانون والمحاسبة لأنه يملك المال ومئات المليارات منه؟
لا نعتقد أن محاولات الرئيس ترامب الحثيثة لتبرئة الأمير بن سلمان من هذه الجريمة ستحقق أي نجاح بعد أن انتقلت القضية برمتها إلى الكونغرس، وباتت وكالة المخابرات المركزية تتبنى موقفاً مستقلا عن البيت الأبيض فيها، وأصبحت مسألة استدعاء رئيسة هذه المخابرات لتقديم شهادتها أمام مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون حتمية، ووشيكة في الوقت نفسه.
وما يدفعنا إلى هذا الاعتقاد أن “أصدقاء” الأمير بن سلمان باتوا ينفضون من حوله، سواء بطرق مباشرة، أو غير مباشرة، فقد لوحظ أن الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي لم يلتقيه أثناء زيارته الأخيرة للرياض قبل سبعة أيام، ولم يحضر كعادته، أي الأمير بن سلمان، لقاء الضيف الإماراتي مع والده الملك سلمان بن عبد العزيز، وهذا أمر لافت، بالنظر إلى العلاقة التحالفية الخاصة والمتينة بين الاثنين، أي بن سلمان وبن زايد.
وكان لافتاً أيضاً أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أعفى الدكتور باسم عوض الله من وظيفته كمبعوثه الخاص إلى السعودية، والدكتور عوض الله يعتبر من أهم مستشاري الأمير بن سلمان في المجالات الاقتصادية والسياسية، علاوة على كونه من أبرز أصدقائه الشخصيين.
الديوان الملكي الأردني لم يعط أي أسباب تبرر خطوة عزل الدكتور عوض الله، ولكن مصادر عديدة تؤكد أن هذا القرار ما كان سيصدر لو أن العاهل الأردني يملك معلوماتً تؤكد أن ولي العهد السعودي سينجو من “لعنة” الخاشقجي ويبقى في منصبه، خاصة أنه اتخذ هذا القرار بعد عودته من واشنطن مباشرة، وبعد التقائه مع مسؤولين أميركيين على أعلى المستويات وأبرزهم مايك بومبيو، وزير الخارجية.
***
اعتراف السلطات السعودية بتقطيع الجثة، وتسليمها إلى متعاون محلي، وتحميل مسؤولية القتل إلى أشخاص مثل اللواء أحمد عسيري، نائب رئيس المخابرات السعودية، أو القنصل السعودي في إسطنبول، أو حتى قائد فريق الموت، يؤكد أن كل التسريبات التركية كانت دقيقة، وأن كل الروايات السعودية الرسمية التي زادت عن عشر، تتسم بالارتباك وانعدام الاحترافية ومحاولة للتهرب من المسؤولية في الوقت نفسه.
ملف “جريمة القرن” سيظل مفتوحاً ربما لأسابيع أو لأشهر قادمة، والخناق بدأ يضيق على الأمير محمد بن سلمان، ونختلف كليا مع السيد عادل الجبير، وزير الخارجية، الذي يصر على أنها جريمة جنائية، ويطالب بعدم تسييسها، فإذا كانت هذه ليست جريمة سياسية فماذا تكون؟ وهل المرحوم خاشقجي كان بائع خضروات، أو أسماك في أسواق الرياض مثلاً، وقتل في عملية سطو مسلح، أو إثر خلاف مع جزار الحي؟
العلاقات السعودية الأميركية لن تتأثر إذا خرج الأمير بن سلمان من السلطة، فلا يوجد أمير واحد في العائلة السعودية المالكة يريد قطع العلاقات مع أميركا التي يزيد عمرها عن سبعين عاماً، والبحث عن بدائل أخرى، ليس لأن هذه البدائل غير موجودة، وإنما لأن ثمن هذه الخطوة في حال اتخاذها سيكون باهظاً بالنسبة إلى العائلة الحاكمة.. والله أعلم.
* عبد الباري عطوان