ثلاث قمم في بحر اسبوع ستحدد مصير ازمات الشرق الاوسط
قف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام خيارات صعبة في الأيام القليلة المقبلة تحتم عليه حسم أمره بعد أن استنفذ كل رهاناته وأدواته، أو معظمها، في إطار استراتيجية كسب الوقت التي أجاد في تنفيذها طوال الأشهر الأخيرة.
قبل الحديث عن هذه الخيارات، لا بد من الإشارة إلى ثلاث قمم على درجة كبيرة من الأهمية، يمكن أن تؤدي نتائجها، إذا ما سارت الأمور وفق أهواء أصحابها، إلى تغيير شكل منطقة الشرق الأوسط، ابتداء من الأزمة السورية، ومرورا بالصراع العربي الإسرائيلي، وانتهاء بالملف الإيراني بشقيه النووي والصاروخي، ومن المفارقة أنها ستعقد في بحر الأسبوع الحالي، في كل من سوتشي الروسية ووارسو البولندية، محور ارتكاز الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا، وموسكو الروسية.
• أولا: قمة سوتشي ستضم كل من الرئيس التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، إلى جانب فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي الداعي والمضيف لها يوم الأربعاء المقبل.
• ثانيا: قمة وارسو “المضادة” الثلاثاء التي ستكون برعاية الولايات المتحدة، وعلى مستوى القمة أيضا، لكن التمثيل الأرجح سيكون على مستوى وزراء الخارجية، وتحمل عنوان السلام والأمن في الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يكون نجمها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى جانب مايك بنس، نائب الرئيس ترامب، وجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي، ومعظم وزراء خارجية دول الخليج ومصر والأردن، وستركز على كيفية مواجهة إيران، وتمويل العرب لصفقة القرن، وبدء صفحة جديدة أكثر قوة في مسلسل التطبيع العربي الإسرائيلي.
• ثالثا: قمة موسكو التي ستكون محصورة في الرئيس فلاديمير بوتين، ونتنياهو، وسيكون الملف السوري، والوجود الإيراني في سورية على قمة جدول أعمالها.
***
القمة الثلاثية التي ستعقد في منتجع سوتشي ستكون الأهم، لأن نتائجها ستنعكس بشكل مباشر وفاعل على القمتين الأخريين، وليس العكس، لأن التناغم فيها بين الزعماء الثلاثة، وهذا مرجح، ربما يؤدي إلى حسم الملفات الثلاثة المذكورة آنفا، أي مستقبل إدلب، والمنطقة الآمنة في شمال سورية، والوجود العسكري الكردي شرق الفرات.
الرئيس أردوغان سيكون مطالبا من قبل حليفه الروسي، و”صديقه” الإيراني بحسم مصير مدينة إدلب، تنفيذا لتعهداته في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بالقضاء على “الجماعات الإرهابية” فيها، أي جبهة “النصرة”، وإحياء اتفاقية “أضنة” مع سورية الموقعة عام 1998 كبديل للمنطقة الآمنة شمال سورية، ووجود قوات سورية الديمقراطية شرق الفرات.
دمشق رحبت باتفاق “أضنة” عندما اقترحه الرئيس بوتين فجأة في لقاء سوتشي الأخير مع أردوغان قبل ثلاثة أسابيع، ولكنها اشترطت في الوقت نفسه التصدي لكل الجماعات الإرهابية، بما في ذلك تلك المدعومة من تركيا، أي الكردية والعربية والتركمانية، إلى جانب جبهة “النصرة” وعودة إدلب وكل الشمال والشرق السوري لسيادة الدولة السورية.
الرئيس أردوغان رحب بالاقتراح الروسي وبإعادة الحياة لاتفاقية “أضنة” لأن الروس وقفوا موقفا صلبا ضد المنطقة الآمنة المقترحة أمريكيا في الشمال، وأصروا على عودة السيادة السورية كاملة، ولأن أمريكا لم تف بوعودها له في منبج، ولم تتخل عن دعمها لوحدات الحماية الشعبية الكردية، وسحب الأسلحة الثقيلة الأمريكية منها قبل انسحاب القوات الأمريكية، ولهذا الرئيس أردوغان أدلى بتصريحٍ اعترف فيه بوجود اتّصالات سورية تركية على صعيد أجهزة المخابرات، ولكنه سرعان ما تراجع، ولكن على لسان المتحدث باسمه ومستشاره الأبرز الدكتور إبراهيم غولن، الذي قال في تصريح “ناقض” إن “العلاقة بين أجهزة الاستخبارات لا تعني الاعتراف بشرعية النظام السوري ورئيسه المجرم في حق شعبه”.
نرجح أن يكون اعتراف الرئيس أردوغان بوجود اتصالات مع الدولة السورية هو الأكثر أهمية، لأنه بارع في إطلاق بالونات الاختبار السياسية لمعرفة ردود فعل الطرف الآخر، والتمهيد لخطوات أو مواقف سياسية قادمة، ومفاجئة، وتمهيد الرأي العام التركي “لابتلاعها” فما يتحدث به ليس زلة لسان وإنما كلمات اختيرت بعناية ولهدف محدد، ونحن نتحدث هنا عن تجربة شخصية.
نوضح أكثر ونقول، أنه عندما زار الرئيس أردوغان القاهرة في (تشرين الثاني نوفمبر) عام 2012، في ذروة حكم الرئيس محمد مرسي، فاجأ الرئيس أردوغان حركة الإخوان المسلمين الحاكمة، والرئيس مرسي بالمطالبة بإقامة دولة “علمانية” في مصر، الأمر الذي عرضه لانتقادات شديدة من الحركة ورموزها في حينه.
اتصل بنا أحد مستشاري الرئيس أردوغان كان مرافقا له، وسألنا عن وجهة نظرنا بهذه “القنبلة” وردود الفعل الإخوانية الغاضبة عليها، فأجبنا باستغرابنا اختيار الرئيس أردوغان لهذه الكلمة تحديدا “العلمانية” التي تعني في نظر الكثير من الإسلاميين العرب “الكفر”، و”تمنينا” لو اختار الرئيس التركي المطالبة “بدولة مدنية” كحل وسط.
هنا قال لي المستشار، وربما بعد التشاور مع رئيسه أردوغان، بأنه أي الرئيس “تعمد” استخدام هذا المصطلح، أي “الدولة العلمانية”، وليس “الدولة المدنية”، لأنه كان يخاطب الرأي العام التركي، وليس المصري، وكرد على اتهامات المعارضة بأنه يتحالف مع الإسلام السياسي العربي، لإلغاء الدولة العلمانية التركية (إرث أتاتورك) لمصلحة الدولة الإسلامية، وإحياء “العثمانية” بالتالي.
***
لا نستبعد أن تؤسس قمة سوتشي الثلاثية المقبلة (الأربعاء) لمصالحة تركية سورية تحت غطاء إحياء اتفاقية “أضنة” وضرب عدة عصافير بحجرها، من بينها عصفورين “سمينين”، أي “جبهة النصرة” السورية العربية، وقوات سورية الديمقراطية الكردية، الموضوعتين على قائمة إرهاب البلدين، واعتراف الرئيس أردوغان بوجود اتصالات بين المخابرات التركية والسورية لم يكن بهدف الكشف عن التنسيق ضد إسرائيل، والقضية الفلسطينية عموما، وإنما لمواجهة هذين “الخطرين الإرهابيين” اللذين يهددان الأمن الوطني فيهما.
ندرك جيدا أن الرئيس أردوغان لا يكن أي ود شخصي للرئيس السوري بشار الأسد، والشعور متبادل حتما، ولكننا ندرك أن الإمام الخميني، رحمه الله، كان يبادل الرئيس العراقي صدام حسين الحقد نفسه، إن لم يكن أكثر، ولكنه تجرع كأس السم، وقبل باتفاق وقف إطلاق النار، مع الفارق الكبير بين أضلاع هذه المقارنة، وأين كانت إيران بعد انتهاء هذه الحرب الكارثية التي استمرت ثماني سنوات، وأين أصبحت الآن سياسيا وعسكريا.
لا نستبعد أن تكون المصالحة التركية السورية باتت وشيكة، وهذا ربما ما يفسر “فتور” التحرك السعودي الخليجي المصري لإعادة العلاقات مع سورية.. والأسد أعلم.
عبد الباري عطوان