كيف تجاوزت الصين الموجة الثانية من كورونا ؟
بين منتصف يونيو/ حزيران ومنتصف يوليو/ تموز، الفائتين، تعرّضت الصين لموجة ثانية من الإصابات بفيروس كورونا بين مواطنيها، بعد أن كانت قد نجحت، إلى حد كبير، في تجاوز الموجة الأولى التي استمرت بضعة أشهر منذ أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2019، وكانت مقاطعة هوبي، وعاصمتها ووهان في وسط البلاد، مركزاً لها، وأدت إلى إصابة أكثر من 83 ألف مواطن صيني بالفيروس، ووفاة نحو 4500 منهم، بحسب الأرقام الصينية الرسمية.
الموجة الثانية التي بدأت من حي فونغ تاي في جنوب العاصمة بكين، حيث سوق شينفادي للخضار واللحوم الذي ظهرت فيه آثار الفيروس على لوحٍ لتقطيع سمك السلمون المستورد، لم تنتج عنها سوى بضع مئات من الإصابات، وأمكن للسلطات الصينية السيطرة عليها خلال بضعة أسابيع. أما كلمة السر في هذا النجاح فهي سرعة الإجراءات وكثافتها.
سارعت الصين حين اكتشاف الإصابة الجديدة في العاصمة إلى إعلان حي فونغ تاي منطقة شديدة الخطورة، كما أعلنت 27 حياً آخر مناطق متوسطة الخطورة، ما يعني أنه يُمنع الخروج منها أو دخولها إلا بعد الحصول على شهادة تثبت عدم الإصابة بالفيروس. وامتدت الإجراءات إلى المقاطعات الملاصقة لجنوب بكين، وهي في المجمل، كما جنوب العاصمة، مناطق فقيرة أو ريفية.
حدث ذلك بعد أيام فقط من إعادة بكين افتتاح مدارسها على ضوء السيطرة على الموجة الأولى من المرض، ما دعاها هذه المرة إلى إعادة إغلاق المدارس فوراً، والطلب من الموظفين العمل من بيوتهم مجدّداً. كذلك ألغت السلطات 1200 رحلة جوية داخلية من بكين وإليها، وقلصت رحلات القطارات التي تعد وسيلة النقل الأكثر استخداماً في الصين، وفرضت قيوداً على الفعاليات العامة والحركة التجارية، وكذلك على خروج المواطنين من بيوتهم للتزود بالمؤن، إذ سُمح لفرد واحد من العائلة بالخروج يومياً لهذا الغرض.
أما الإجراءات الأكثر أهمية، فهي المتعلقة بالفحوصات الطبية وإقامة مراكز العلاج. وتفيد تقديرات بأن مليون مواطن من بكين، التي يبلغ عدد سكانها نحو 24 مليوناً، كانوا يخضعون لفحص الإصابة بكوفيد 19 يومياً، بصورة مجانية، في 24 مركزاً للفحص سارعت السلطات إلى إقامتها منذ اكتشاف الإصابة الأولى الجديدة في 11 يونيو/ حزيران. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء أدى إلى اصطفاف طوابير طويلة من المواطنين يومياً أمام مراكز الفحص، وانعكس سلبياً على عملهم وأوضاعهم المعيشية، إلا أنه كان حاسماً في احتواء المرض، والحيلولة دون تفشيه مجدّداً. ولم تكن تلك الفحوصات عشوائية تماماً، إذ جرى توظيف تطبيقات الهواتف المحمولة، بمساعدة شركات الاتصالات، لدعوة المواطنين إلى إجراء الفحص على أساس المناطق التي ارتادوها خلال الأيام السابقة، والأشخاص الذين خالطوهم، أو يُحتمل أنهم اختلطوا بهم. كما تم تزويد المواطنين بالمعلومات من خلال تلك التطبيقات، سواء الطلب منهم البقاء في البيوت لاحتمال إصابتهم، أو إعلامهم بأنهم في وضع خطِر.
وبينما تعتبر الصين أنها قدّمت، بهذا النجاح الجديد في احتواء الفيروس، نموذجاً لكل الدول الساعية إلى السيطرة على المرض، فإن أصواتاً في أوروبا والولايات المتحدة ما زالت تعتقد أن سلطات الصين فعلت ذلك معتمدة على قبضتها الحديدية في الداخل، وعلى حساب حريات المواطنين من جهة، والنشاط الاقتصادي من جهة ثانية. وبالنسبة للصين نفسها، لو كان هذا صحيحاً، فإنه لا يعيب الدولة التي جعلت صحة مواطنيها وحياتهم معياراً رئيسياً لإجراءاتها، ومقياساً لنجاحها، إذ ما فائدة أي معيار آخر لو أدى إلى تزايد الوفيات أو انتشار المرض إلى ملايين الناس في أرجاء الصين ومقاطعاتها المختلفة في الشرق والغرب؟ حدث هذا في وقتٍ كانت فيه مدن رئيسية أخرى في الصين، خصوصاً في جنوب البلاد، حيث مركز النشاط الاقتصادي، مثل شنغهاي وغوانغجو وشينجن، تعيش حياة طبيعية بعيدة عن الخطر، حيث يرتاد الأولاد مدارسهم، ويذهب الناس إلى أعمالهم كالمعتاد.
اتهمت الصين أوروبا بأنها مصدر العدوى في بكين، مستندة إلى إن الفيروس الذي ظهر في عاصمتها ينتمي إلى سلالة قادمة من أوروبا
ربما يكون مردّ ذلك الموقف الناقد إجراءات الصين، من الأصوات الغربية، الخشية من نيات الصين تصدير صورة إيجابية عن نفسها أمام العالم، والظهور بمظهر الحكومة الرشيدة الحريصة على مواطنيها، في وقت تعتمد الدعاية الغربية ضد الصين على تصويرها حكومة قمعية تنتهك حقوق الإنسان، وفي الإطار نفسه، تندرج مواجهة تقديم الصين مساعدات طبية إلى الدول التي يجتاحها الفيروس، حتى لا تظهر بمظهر الدولة المسؤولة التي تهتم بمصالح الآخرين، وذلك عبر اتهامها بأنها مصدر الفيروس، وأنها قصّرت في مواجهته، وإبلاغ العالم عنه في أول الأمر، ما أدّى إلى انتشاره عبر القارات.
الغريب، هذه المرة، أن الصين سارعت إلى اتهام دول أوروبية بأنها مصدر العدوى التي وقعت في بكين، مستندة إلى القول إن الفيروس الذي ظهر في عاصمتها ينتمي إلى سلالة قادمة من أوروبا، لكنها أقدم من التي انتشرت فيها منذ مطلع العام 2020، وبينما لم توضح السلطات الصينية كيفية انتقال هذا الفيروس إليها، فإنها عزت وجوده إلى “بعض الأشخاص أو البضائع من الخارج”، كما زوّدت منظمة الصحة العالمية بتسلسل الجينوم الخاص بالفيروس، بناءً على طلب المنظمة.
ولا يبدو أن الصراع على تحديد مصدر الفيروس، والدعاية الإعلامية بشأن إجراءات مواجهته، وتقديم المساعدات الطبية لدول العالم، معزول عن التنافس الاقتصادي والسياسي الذي يتوقع أن يندلع عقب تجاوز شهور هذا المرض العالمي الخطير، إذ تدرك الولايات المتحدة، وحليفاتها في غرب أوروبا، أن الصين ستسارع، كما فعلت عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، إلى حجز مساحات جديدة في اقتصادات الدول الأكثر تضرّراً من الفيروس، عبر تملك صناعات وموانئ جديدة فيها، وإقامة شراكات جديدة مع حكوماتها، كذا استجلاب استثمارات أجنبية جديدة إلى أراضيها عانت جراء تباطؤ العمل في الأشهر الأخيرة، لتجد في الصين تسهيلاتٍ أكبر ومصاريف تشغيلية أقل، إذ يدرك خصوم الصين أن نجاحها في ذلك سيكون نقطة تحوّل كبرى لا يريدونها، في مكانة الصين العالمية، واستكمال خطتها “الطريق والحزام” التي ستضمن نموها إلى قوة اقتصادية أكبر مما هي عليه اليوم، وقوة سياسية يُحسب حسابها خلال عقود مقبلة.
سامر خير أحمد