عجّ المشهد لحظة وصول الرئيس السوري بشار الأسد، والذي كان يسير مبتسما على مدرج المطار بعد وصوله مدينة جدة السعودية، وسط حضور رفيع المستوى من المملكة، متمثلاً بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي حيّاه بعناق دافئ. مرحبّاً بعودة الأسد إلى الحظيرة العربية وانضمامه مجددًا إلى قادة الدول العربية الأخرى.
لم تكن هذه الزيارة عادية مطلقًا، بل نستطيع القول أنها سنوات من إعادة التأهيل والإعداد لإنهاء الأزمة السورية، لم يبدِ الأسد إزعاجا لمنتقديه ومعارضيه. فقبل عقد من الزمن، كان المسؤولون في دول الخليج يتآمرون على سبل الإطاحة بالأسد. ولم يتأخروا عن ضخ الموارد والأسلحة في الحرب الأهلية المستعرة في سوريا، وتقديم الدعم للمتمردين المعارضين للأسد. الذي قابل هذه الموجة بتوجيه أسلحته ضد شعبه، وقصف المدن السورية وإطلاق العنان للأسلحة الكيميائية على المدنيين، ما استدعى إلى وضع نظام الأسد في حالة جمود عميق، و تجميد عضوية بلاده في جامعة الدول العربية، الكتلة الشقيقة التي استوعبت لفترة طويلة الديماغوجيين والمستبدين من مختلف المشارب.
ورحب زعماء الشرق الأوسط بالرئيس السوري بشار الأسد في قمة إقليمية في 19 مايو أيار بعد أكثر من عشر سنوات من تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية
وجاءت هذه الزيارة في وقتٍ يسيطر الأسد فيه بحكم الواقع على غالبية بلاده، في حين أن قوات الثوار السوريين ومؤيديهم مهزومون ومشتتون. وبزمنٍ حولت فيه القوى الإقليمية التي استثمرت فترة عزله، اهتمامها وأولوياتها إلى شؤون أخرى. وقالت الناشطة البريطانية السورية رزان صفور عن عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية: “لقد خذلنا المجتمع الدولي تماما”، وأضافت “بدلا من محاسبة الأسد على جرائمه الشنيعة… فقد رحبوا به كمكافأة، كما لو أن السنوات الإثني عشرة الماضية من المعاناة وسفك الدماء لم تحدث أبدا” .
أما وفاء علي مصطفى ، 32 عاما ، وهي سورية لاجئة في ألمانيا ، فأبدت تخوفها من عملية “تطبيع” نظام الأسد التي تبدو جارية بين جيرانه العرب.
استغل الأسد ظهوره في جدة ليقدم نفسه مرة أخرى كدعامة للاستقرار في منطقة مضطربة. وقال في التجمع: “من المهم ترك الشؤون الداخلية لشعب البلاد لأنهم الأقدر على إدارتها”. وفي عهده، قد مات مئات الآلاف من السوريين، واختفى عشرات الآلاف في سجون النظام، وشرد الملايين بينما لا يزال جزء كبير من البلاد التي مزقتها الحرب بحاجة إلى مساعدات إنسانية. حتى جاء الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وأجزاء من شمال سوريا في فبراير والذي قدّم للأسد مساراً جديداً لتسريع التقارب مع الجيران المتعاطفين.
ومع استمرار فأس النظام السوري طحنه الأيديولوجي. حذر الأسد من “خطر الفكر العثماني التوسعي” – موجها نداء ضمنيا لكل العرب للتضامن معه.
وعدّ دبلوماسيون سعوديون عودة الأسد إلى الحظيرة هي جزء من محاولة واسعة لتخفيف الاحتكاكات في الشرق الأوسط، بعد سنوات من الاستقطاب الجيوسياسي والحروب المدمرة والاضطرابات الاجتماعية. وأعرب ولي العهد يوم الجمعة عن أمله في أن تؤدي عودة الأسد إلى جامعة الدول العربية “إلى نهاية الأزمة”.
على النقيض، فقد كان خطاب الامتعاض والاستياء واضحًا والذي رافق حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القمة في جدة كمحطة توقف في طريقه إلى اجتماع مجموعة السبع في اليابان. ودعا القادة العرب إلى إلقاء “نظرة صادقة” على الحرب التي تشنها روسيا في بلاده، مع انتهاكاتها لحقوق الإنسان وانتهاكاتها للقانون الدولي.
وقال زيلينسكي: «لسوء الحظ هناك البعض في العالم، وهم متواجدون بينكم، يغضون الطرف عن عمليات الضم غير القانونية». في هذه القاعة المكتظة بأصدقاء الكرملين وحلفائه على رأس المجموعة، في إشارة إلى الأسد، الذي أنقذ التدخل الروسي نظامه في عام 2015.
ومع ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا، والاضطرابات الواسعة النطاق التي ضربت الأسواق الاقتصادية ، دعت الأذهان في الشرق الأوسط لتركي البحث على قدر أكبر من الاستقرار في عصر المجهول. إذ تعمل المملكة العربية السعودية على إصلاح الأسوار مع خصمها؛ إيران ،والبحث عن مخرج من الحرب في اليمن ، فباتت تعطي الأولوية لخططها الطموحة لتأهيل المستوى الداخلي الذي سينعكس بإيجابية على المستوى الخارجي.
وغرد إتش إيه هيلير، وهو زميل بارز في مركز أبحاث RUSI في بريطانيا: “لم تبدأ الرياض حملة التطبيع مع نظام الأسد، لكنها ساهمت في تعزيزها، وبقوة”، في إشارة إلى المبادرات التي قدمتها دول مثل الإمارات العربية المتحدة إلى سوريا في وقت سابق. “هذا كله جزء من حسابات الرياض بأن أجندتها الداخلية تتطلب خفض التصعيد داخل المنطقة على حساب أي ملف آخر ، بحيث يتم تركيز الاهتمام الكامل على المستوى الداخلي”.
وحذر هيلير بشدة بالقول “إنّ نتائج إعادة دمج الأسد قد تعود بالوبال على الرياض. إذ إنّ الأسد لم يتغير، ولا يزال نظامه غير مستقر، حتى مع الدعم الروسي والإيراني. فهناك الملايين من السوريين الذين ينظرون إلى الأسد على أنه الأكثر وحشية في تاريخهم، وهذه المبادرة ليست الوصفة المثالية لمشهد مستقر”.
أما المسؤولون الأمريكيون والدبلوماسيون الغربيون فيترقبون بحذر خطوة إعادة التأهيل السياسي للنظام السوري. وفي الوقت الذي تدعو فيه دول مثل الأردن والجزائر والإمارات العربية المتحدة إلى تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، يكثف المشرعون الأمريكيون جهودهم لتمرير جولة جديدة من التشريعات التي تعاقب نظام الأسد وتحد المزيد من التطبيع.
وقال مصدر خليجي مقرب من الدوائر الحكومية لرويترز. نحن (دول الخليج) أناس نعيش في هذه المنطقة، نحاول حل مشاكلنا قدر الإمكان بالأدوات المتاحة لنا بأيدينا”.
وقد يعكس هذا التحول أيضا تراجع شهية الولايات المتحدة للانخراط في المنطقة، فعندما تلقي واشنطن أنظارها على التحديات في الشرق فإنها تفضل أن يكون دورها في المقعد الخلفي في الشؤون العربية. وقالت منى يعقوبيان ، نائبة رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الأمريكي للسلام ، لقناة الجزيرة “ربما تكون إدارة بايدن قد أجرت حسابات مفادها أن المنطقة تمضي قدما في التطبيع” وأضافت”ربما تكون القضية إذن هي الحصول على شيء مقابل ذلك، والحصول على تنازلات”.
الاحتضان العربي للأسد يؤكد الاختلاف مع الولايات المتحدة بشأن سوريا
ومن غير الواضح مدى أهمية هذه التنازلات. ويشير الخبراء إلى انتشار التجارة غير المشروعة للكبتاغون، وهو مخدر أصبح تصديرا ضخما غير مشروع في سوريا الأسد، وقد يكون تأثيره الخطير على المنطقة مصدر نفوذ لدمشق.
ويرى تشارلز ليستر، زميل أقدم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. أنه و”من أجل الحفاظ على اهتمام المنطقة، من المحتمل جدا أن يمنح النظام بعض التنازلات اليسيرة في الأشهر المقبلة: منها معلومات استخباراتية عن شحنات الكبتاغون . وإبقاء وصول المساعدات عبر الحدود مفتوحا؛ وربما منح عفو صغير عن السجناء”، ” ولكن ليس من طبع الأسد أن يتنازل بأي طريقة ، لذلك سيأتي وقت تصل فيه إعادة الانخراط هذه إلى انسداد طبيعي – حيث تصبح الخطوة التالية ، الاستثمار الاقتصادي الكبير ، غير مقبولة دبلوماسيا وربما ستردعها العقوبات الغربية”.
واخيرًا قال وليام ف. ويشسلر، المسؤول السابق في البنتاغون الذي يرأس برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي. في الوقت الراهن، يسير التطبيع مع سوريا على قدم وساق. والدول العربية “دقيقة بحكمها على موقف الولايات المتحدة من التطبيع، وهو أن الولايات المتحدة لا تريد أن تكون لها بصماتها عليه، ولا تريد دعمه، لكن الولايات المتحدة لن تفعل أي شيء لمنع حدوث ذلك”.