العراق يشق طريقه نحو استعاده مكانته
تثير تحركات العراق في الفترة الأخيرة كثيراً من الاهتمام، خصوصاً على المستوى الإقليمي. فخلال الفترة الأخيرة بدأ العراق في تنشيط وتوسيع التعاون مع عدد من الدول العربية، إلا أن وتيرة هذا التعاون قد تسارعت بشكل ملحوظ.
ولعل أحدث المستجدات في هذا السياق زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للعراق بدعوة من رئيس الوزراء محمد السوداني بحسب ما ذكر المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي.
وتشير تصريحات المسؤولين العراقيين إلى أن قطر مهتمة بأن يكون لها دورا استثماريا كبيرا في مشروع للطرق والسكك الحديدية بقيمة 17 مليار دولار يربط بين آسيا وأوروبا.
سياسة عراقية خارجية أكثر نشاطاً
وقال المسؤول العراقي إن منهاج حكومته يقوم على “برنامج يتضمن 23 محوراً أبرزها تعزيز علاقات العراق مع الدول على أساس مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بخاصة مع دول الجوار ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية، وعدم السماح بأن يكون العراق ممراً أو مقراً للاعتداء على الدول الأخرى والطلب من الدول الأخرى المعاملة بالمثل”.
وأشارت دراسة سابقة لمعهد بروكنغز الأمريكي إلى أن الأنظمة الملكية الخليجية لم تستثمر طاقة وموارد كبيرة في العراق فيما واجه شركاؤها الأمريكيون والأوروبيون صعوبات لتعبيد الطريق أمام المزيد من الدعم والاستثمارات الخليجية للعراق مع محاولتهم إحلال الاستقرار في البلاد في خلال الحملة المناهضة لتنظيم داعش في السنوات الأخيرة الماضية.
وأضافت الدراسة أنه ومع دعم وقيادة أمريكيين، بإمكان العراق أن يندمجَ من جديد في العالم العربي ويعيدَ تنشيط علاقة مع الخليج ترتكز على المصالح المشتركة للمساعدة على إنعاش الاقتصاد، وبما يخفّفَ من اعتماده على إيران في خضمّ ذلك.
شراكات اقتصادية طموحة
في هذا الإطار، يعمل العراق على إعادة تأكيد قوته الاقتصادية، فالعراق منتج رئيسي للنفط، ويعمل حالياً على جذب الاستثمار الأجنبي لتنمية موارده الطبيعية الأخرى، فيما ينمو مع الوقت اقتصاد العراق وهو في سبيله لأن يصبح لاعباً أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي كما تشير التوقعات.
على سبيل المثال، يوجد حالياً مشروع طموح وهو سكة حديد البصرة – العقبة، ويهدف الى ربط ميناء البصرة العراقي بميناء العقبة الأردني عبر خط من السكة الحديد. ومن المتوقع أن يكتمل المشروع في عام 2024 وسيعزز التجارة بين العراق والأردن، وكذلك مع الدول العربية الأخرى.
وهناك مشروع خط الغاز العربي، حيث يجري بناء هذا الخط لنقل الغاز الطبيعي من قطر إلى العراق والأردن وسوريا ولبنان. ومن المتوقع أن يكتمل في عام 2025 وسيساعد في تلبية احتياجات الطاقة لهذه البلدان.
أيضاً يوجد مشروع قد تنضم إليه لاحقاً عدة دولة عربية وهو حقل الزبير النفطي الذي يقع في جنوب العراق ويقوم بتطويره كونسورتيوم من الشركات العراقية والأجنبية. ويتمثل الهدف الرئيس من المشروع بتمكين العراق من زيادة استقلاليته في جانب الطاقة وتحقيق تنوع اقتصادي من خلال جمع الغاز المصاحب وتصنيعه، الذي يُحرَق حاليًا في حقول الرميلة وغرب القرنة1 والزبير دون الاستفادة منه.
إضافة إلى ما سبق، هناك مشروع سد نهر الفرات شمال العراق والذي من المتوقع أن يكتمل في عام 2026 وسيوفر مياه الري والطاقة الكهرومائية للعراق وسوريا.
كما دشن العراق مشروعا ضخماً الشهر الماضي يربط العراق ودول الخليج بالحدود التركية عن طريق خط سكك حديدية وطرق يطمح من خلاله للتحول إلى خط أساسي لنقل البضائع بين الشرق الأوسط وأوروبا، في خطوة تهدف لإحداث تحول في الاقتصاد العراقي.
وتقول سهاد الشمري الباحثة في الشأن السياسي العراقي من بغداد إن ” مشروع التنمية الذي يتم الإعداد له بين العراق وتركيا هو أحد الأمثلة على تجاوز الخلافات والعمل على التنمية الاقتصادية مع دول الجوار الأمر الذي سوف يعود بالمنفعة على العراق أولاً وعلى تركيا ثانياً وعلى الخليج ثالثاً، لأنه سوف يختصر المسافات لنقل البضائع بين الدول، فهذه كلها أمور أدت إلى تغيير شكل السياسة الخارجية لجميع الدول”، بحسب ما قالت خلال حوارها هاتفياً مع DW عربية.
تعاون سياسي عراقي- عربي
يشير خبراء إلى أن العراق ربما أدرك متأخراً أن خلو الساحة من الوجود العربي منح أفضلية لإيران التي استغلت حالة الفراغ فدخلت بثقلها السياسي والاقتصادي لتملأ المشهد العراقي. يرى البعض أنه لا يمكن لوم العراق على ذلك، حيث كان في حاجة ماسة إلى الكهرباء والبضائع وغيرها، فيما سحبت عدة دول عربية يدها شيئاً فشيئاً من العراق.
ويرى البعض أنه بعد الاتفاق الإيراني – السعودي، ربما أدركت الدول العربية خطأ ما فعلته حين تركت العراق لقمة سائغة لإيران التي لم تتردد لحظة واحدة في ملء الفراغ الناشئ عن انسحاب الدول العربية، لتتكرر مشكلة لبنان واليمن وسوريا.
وترى سهاد الشمري أن هذه الرؤية منتشرة في العراق بالفعل، “بل إن أغلب الشعب العراقي يرى أن الدول العربية تركت العراق فريسة سهلة لإيران”.
تقول الشمري أن أغلب الشعب العراقي يرى أن الدول العربية تركت العراق فريسة سهلة لإيران
واستدركت الشمري قائلة: “إن النفوذ الإيراني كان شديد القوة، واستعان في ذلك بأذرع له تمتلك المال والسلاح والسلطة، وبالتالي فلا نلقي باللوم على الدول العربية لأن بعض القادة العراقيين أنفسهم جاؤوا مكملين للسياسة الإيرانية، وكان نفوذ إيران أقوى من الوجود العربي”.
وقالت إن الشعب العراقي اندفع للخروج في مظاهرات مطالبة بتغيير هذا الوضع، “كما أشار بعض القادة السياسيين العراقيين إلى وجود إخفاقات وعمالة لإيران وفساد سياسي، بالتالي هذه كلها متغيرات حقيقية على أرض الواقع لا تجعل أي جهة أو أي طرف يتحمل اللوم منفرداً عما آلت إليه الأوضاع في العراق، خاصة وأن التعاون مع إيران جاء في إطار احتياج عراقي مثل مشاريع الكهرباء مع إيران، لكن كانت النتيجة أن سٌلم العراق لإيران على أيدي بعض الساسة المتواطئين”.
خطوات عراقية “متسرعة”؟
ويعمل العراق على إعادة الانخراط مع العالم العربي، إذ بدأ في إعادة التواصل مع جيرانه العرب في السنوات الأخيرة وعمل على تقوية دوره الإقليمي وتحسين علاقاته وتقويتها مع المملكة العربية السعودية وقطر وغيرهما من القوى الإقليمية الرئيسية، كما يحاول العراق حالياً استعادة نفوذه وقوته في الخليج والعالم العربي عبر إعادة بناء قوته العسكرية ليتمكن من لعب دور أكثر نشاطًا في الأمن الإقليمي.
في هذا الإطار تقول سهاد الشمري الباحثة العراقية إن “السياسات الحاسمة اليوم تقتضي الانفتاح على جميع الدول وخصوصاً على المحيط العربي والإقليمي، ومن ثم أن يكون تعامل العراق مع هذه الدول على خط واحد بحياد، أضف إلى ذلك جهود العراق لتقريب وجهات النظر، وهذا ما فعله مع قطر والسعودية وإيران، كما يلعب اليوم دوراً هاماً كوسيط بين طهران والقاهرة لتقريب وجهات النظر”.
من ناحية أخرى، ينظر محللون بنظرة شك وريبة للمساعي العراقية المتسارعة في عقد شراكات واتفاقيات متنوعة مع الدول العربية، ويرى البعض أن هذا التسرع ربما يؤدي لفشل محتمل بسبب السرعة الشديدة التي تسير بها الأمور.
في هذا السياق، ترى الشمري أن حكومة السوداني “تركز على الجانب الخدمي وعلى الاقتصاد والإنتاج، والسوداني نفسه أطلق على هذا العام عام المشاريع وتم لأول مرة وضع خطط خمسية وعشرية، ما يعني أن العراق اليوم يرغب في تطوير علاقاته السياسية، وفي الخلفية الاستثمار والاقتصاد، إلى جانب النواحي الأمنية والسياسية بالطبع، لكن الانهيارات الاقتصادية والخدمية السابقة كانت هي الدافع وراء هذه التحركات السريعة التي نراها اليوم لإصلاح الوضع الداخلي”.
وأشارت الشمري إلى أن العراق يعد ثاني أكبر بلد يحرق غاز طبيعي في العالم دون الاستفادة منه لعدم وجود بنية تحتية تساعد على الاستفادة منه، ولذلك يسعى العراق لبناء مصانع للغاز ووقف الاستيراد من إيران الأمر الذي يلقي بآثار سلبية على منظومة الكهرباء.
وأضافت الباحثة العراقية أن “السياسة الاقتصادية للدول هي التي ترسم السياسة الخارجية والعلاقات مع الآخر، فالجميع يسعى لخدمة بلاده والجميع يحتاج الجميع في هذه المرحلة، خصوصاً بعد الضربة التي تلقاها الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية وظهور أقطاب جديدة تغير من موازين القوى الدولية وفي المنطقة. وهذه كلها أمور تدفع العراق لاستثمار جميع الفرص المتاحة له من أجل تعظيم مكتسباته الاقتصادية والسياسية والأمنية وحتى تعم الفائدة على جميع الدول في المنطقة”.
يقول الخبراء إن المسار الذي يمضي فيه العراق حالياً يبدو طويلاً، لكن إذا ما تحققت النتائج المرجوة من هذه المشروعات وهذا التعاون العربي الإقليمي فإن الجهد المبذول حالياً في هذه الشراكات يستحق تماماً، خاصة وأن العراق يحرز تقدماً ملحوظاً، كما أنه في وضع جيد للعب دور أكثر نشاطًا في الخليج والعالم العربي في السنوات القادمة.