بوصلة السعودية تتجه نحو بكين بدل واشنطن
خلال الأيام الماضية، قررت العربية السعودية بحث مسألة تخفيض النفط المصدر للولايات المتحدة، من أجل التحكم في الأسعار عالميا وعدم انخفاضها. وينضاف قرار الرياض هذا إلى سلسلة أخرى من القرارات، التي تبرز بدء الابتعاد التدريجي عن سياسة واشنطن، أو على الأقل التقليل من التنسيق معها. ومن ضمن أسرار هذا التحول تخلي ولي العهد محمد بن سلمان عن غالبية مستشاريه الغربيين، ثم تبني استراتيجية شبيهة بالتي تنهجها تركيا منذ عقدين.
ويعد قرار تخفيض النفط للولايات المتحدة أمرا ليس بالجديد، وهو سيؤثر في المخزون الأمريكي من النفط، ويدفع الشركات الأمريكية إلى شراء النفط من السوق الدولية وسيرتفع ثمنه، ويتزامن القرار في وقت ترغب فيه واشنطن التحكم في النفط العالمي كوسيلة ضمن وسائل أخرى لمعاقبة وضرب اقتصاد روسيا، بسبب حرب هذه الأخيرة ضد أوكرانيا.
وعليه، القرار السعودي يتعدى ما هو اقتصادي الى ما هو سياسي بعرقلة ـ ولو بطريقة غير متعمدة ـ مساعي واشنطن لمعاقبة موسكو. وهذا القرار، ينضاف إلى قرارات اتخذتها الرياض منذ بداية السنة الجارية، وتبدو في العمق معادية لسياسة واشنطن، سواء في ما يتعلق بمستقبل العلاقات الثنائية، أو بشأن مخططات البيت الأبيض في التحكم في العلاقات الدولية، ويحدث كل هذا في وقت دقيق جدا يشهد تغيير الخريطة الجيوسياسية.
وهكذا قررت الرياض التخفيض من الحديث عن التطبيع مع إسرائيل وربطه بشروط هي في العمق تعجيزا، وعلى رأسها ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية، ثم حصول الرياض على تكنولوجيا الطاقة النووية السلمية. وتدرك الرياض صعوبة تلبية كل من واشنطن وإسرائيل الشرطين، ولو في حدهما الأدنى، وهي بهذا تقلل من الضغط الأمريكي بذكاء بهذا المبرر.
في الوقت ذاته، أقدمت السعودية، وهي التي كانت تحظى بحماية عسكرية أمريكية، حسب الاتفاقيات المبرمة بين البلدين منذ الأربعينيات من القرن الماضي، على التوقيع على اتفاق المصالحة مع إيران. اتفاق بقدر ما شكل مفاجأة للغرب، بقدر ما يفتح منطقة الشرق الأوسط على آفاق جديدة من التهدئة، لأنه في العمق، اتفاق حوار له دلالات كبيرة، فهو هدنة بين السنة والشيعة.
وجاء الاتفاق بواسطة الصين، وهي الدولة التي تنافس الولايات المتحدة حول ريادة العالم. وبهذا، تكون السعودية قد منحت للصين أكبر فرصة في تاريخها الدبلوماسي كراعية سلام في منطقة متفجرة. وفي إطار سياساتها الجديدة، أعلنت الرياض عن رغبتها في الانضمام الى منظمة «البريكس»، وهي المنطقة الساعية بقوة إلى التقليص من التأثير السياسي والاقتصادي للغرب، خاصة مجموعة «السبع الكبار» في المشهد الجيوسياسي العالمي. وكان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قد حضر اجتماع «مجموعة أصدقاء البريكس» الذي انعقد في جنوب افريقيا بداية يونيو الماضي.
وصرح في ذلك الاجتماع «المملكة لا تزال أكبر شريك تجاري لمجموعة بريكس في الشرق الأوسط، والعلاقات التجارية مع دول البريكس شهدت نمواً كبيراً يعكس العلاقات المتنامية والمتطورة مع دول المجموعة، حيث ارتفع إجمالي التجارة الثنائية مع دول المجموعة من 81 مليار دولار عام 2017 إلى 128 مليار دولار عام 2021، وتجاوز 160 مليار دولار في عام 2022». ولا تخفي السعودية تقاسم استراتيجية البريكس، فقد قال عيد العيد المستشار الاقتصادي السعودي، إن بنك التنمية الجديدة التابع لبريكس، يهدف لمساعدة دول البريكس، والدول النامية في مشروعات البنى التحتية «الضخمة منها»، بدلا من المؤسسات التي تتبع النظام الغربي وتفرض شروطا تعسفية.
وفي قفزة أخرى، بدأت السعودية ومنذ سنة في التفاوض مع الصين من أجل صفقات عسكرية ضخمة، تشمل مدمرات وأنظمة دفاع جوي والأساسي هو صواريخ باليستية وصواريخ فرط صوتية، وقد تكون أول دولة تحصل على صواريخ فرط صوتية في تاريخ الصفقات العسكرية. ويتعدى الأمر صفقات أسلحة إلى محاولة التصنيع الحربي المشترك في السعودية. وسعت السعودية إلى التصنيع العسكري في أراضيها، ولم تلق استجابة من الغرب. وتوجد ثلاثة عوامل وراء هذا التحول الملحوظ في السياسة الخارجية للعربية السعودية وهي:
في المقام الأول، معطيات حصلت عليها جريدة «القدس العربي» تفيد بتغيير ولي العهد محمد بن سلمان لجيش المستشارين الذين اعتمدهم، وكانت غالبيتهم من الدول الغربية، وكانوا يحثون ولي العهد على مزيد الارتباط بالغرب. والآن، أصبح معظم المستشارين الذين يقومون بدور ما يشبه تقارير مراكز التفكير الاستراتيجي من السعوديين وليس الغرب.
في المقام الثاني، وعت السعودية أن الشرق الأوسط سيكون صينيا اقتصاديا، وستكون الصين الزبون الأول للنفط السعودي، ولهذا تسارع في التقارب مع بكين ونسج علاقات متينة معها منذ الآن.
في المقام الثالث، ترغب السعودية في عدم خسارة المشاركة في قيادة الشرق الأوسط الآن ومستقبلا، لاسيما في ظل الدور التي أصبحت تلعبه تركيا ثم إيران. ولم يعد هاجس السعودية قيادة العالم العربي، بل التحول إلى مخاطب رئيسي للقوى الكبرى في قضايا الشرق الأوسط، خاصة التوافق مع الأجندة الصينية والروسية.
هذا التغيير الحاصل في منهجية تعاطي الرياض مع قضاياها الخارجية، يبرز كيف تعمل على التكييف مع أجندة الدولة التي سيكون لها الثقل الأبرز في الشرق الأوسط، وهي الصين. والأمر شبيه بالبوصلة التي تبنتها منذ الحرب العالمية الثانية بالرهان على الولايات المتحدة التي قادت الغرب وقتها، والآن توجه البوصلة نحو الشرق، نحو بكين.
حسين مجدوبي – كاتب مغربي