تحليل: هل يصبح العراق محور تنمية مستدامة في الشرق الأوسط؟
نجحت حكومة محمد شياع السوداني في تحقيق استقرار سياسي لم يعرفه العراق منذ سنوات بفضل سياستها القائمة على التوازن بين قوى سياسية ذات مشارب متنوعة، فهل تنجح هذه الحكومة أيضاً في طموحاتها التنموية التي تتجاوز حدود العراق؟
ومنذ سنوات يشرع العراق أبوابه للانفتاح الاقتصادي على الجيران في كل الاتجاهات. ويتجسد ذلك من خلال طرح مشاريع اقتصادية إقليمية عديدة انطلاقا من أراضيه في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار.
ومن أحدث المشاريع “طريق التنمية” بتكلفة 17 مليار دولار للربط البري بين دول الخليج وتركيا عبر ميناء الفاو الكبير جنوب العراق. وقد تم مؤخرا الإعلان عن هذا المشروع بحضور ممثلين عن الدول المجاورة والقريبة من العراق وعلى رأسها إيران وتركيا والسعودية.
وترى الحكومة العراقية في المشروع حسب رئيسها محمد شياع السوداني “ركيزة لاقتصاد مستدام متنوع لا يعتمد على النفط وعقدة ارتباط تخدم جيران العراق ومنطقة الشرق الأوسط”.
وسبق للحكومات العراقية السابقة أيضا أن طرحت مشاريع مشابهة للتعاون الإقليمي واتفقت على بعضها مثل الربط الكهربائي وتطوير صناعة البتروكيماويات مع السعودية ومد أنبوب لتصدير النفط العراقي عبر ميناء العقبة الأردني، إضافة إلى مشروع “خط التجارة العربي” لنقل البضائع من العراق ودول الخليج والأردن غبر خليج العقبة ومنها إلى الأسواق المستهدفة عبر الموانئ المصرية.
الجيران والحاجة لتعاونهم
ويدرك العراقيون أن لديهم مخزونات كبيرة من النفط، لكن المشكلة تكمن في أن عصر النفط قد ينتهي بشكل أسرع من المتوقع، وعندها قد يجد بلد غني بموارد متنوعة مثل العراق نفسه أمام اقتصاد متصحر ومتدهور وضعيف البنية بسبب اعتماده بشكل متطرف على ربع النفط الذي يشكل نسبة تزيد على 90 بالمائة من الصادرات.
ووفقا للبنك الدولي فإن ما يزيد على 60 بالمائة من الاستثمارات العامة في البلاد أضحت مرتبطة بأسعار النفط مقارنة بأقل من 17 بالمائة عام 2010.
يأتي ذلك في وقت تتدهور فيه الزراعة والثروة السمكية كثاني أهم قطاع اقتصادي في البلاد. ويأتي هذا التدهور بنسبة تزيد على 60 بالمائة في غضون سنوات قليلة وبشكل أساسي بسبب قلة المياه التي تطلقها تركيا إلى العراق عبر نهري دجلة والفرات حيث بنت عليها أكبر السدود التي تحجز عشرات مليارات الأمتار المكعبة.
وبدورها قامت إيران بمشاريع كثيرة أدت إلى تجفيف أو تقليص روافد نهر دجلة الكثيرة والقادمة من الأراضي الإيرانية. كما قامت بتحويل مياه نهر الكارون وحرمان شط العرب منها.
المال العراقي وخبرة الجيران؟
ورغم توفر العراق على طفرات مالية كبيرة بسبب ارتفاع أسعار النفط ما تزال البنى التحتية ضعيفة باستثناء بعض الطرق البرية السريعة التي تربط بين المدن الرئيسية. ويدل على ذلك انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي على مدى ساعات. ومن شأن طرح مشاريع مثل “طريق التنمية” أو “خط التجارة العربي” بالتعاون مع الدول المتجاورة أن يساهم في تطوير هذه البنى وخاصة على صعيد الطرق والخطوط الحديدية وشبكات الطاقة والري والسدود في مختلف أنحاء البلاد.
وهنا يمكن للشركات التركية والإيرانية والسعودية والإماراتية أن تلعب دورا هاما في البناء وضخ الأموال اللازمة لإنجاز مشاريع النقل والطاقة بحكم الخبرة والمصالح المتبادلة والأهمية الواعدة للسوق العراقية كأحد أكبر أسواق منطقة الشرق الأوسط من حيث عدد المستهلكين الذي يقارب 50 مليون نسمة ومن حيث القدرة الشرائية العائلة لشريحة واسعة منهم.
وهنا يمكن الإشارة مثلا إلى الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه شركات الإنشاءات التركية في بناء الطرق والجسور والشركات السعودية مثل “أرامكو” في تطوير صناعة البتروكيماويات.
وهناك خبرات كبيرة للشركات الإمارتية في بناء المدن والأحياء السكنية يمكن الاعتماد عليها. أما الشركات الإيرانية التي لا تخضع للمقاطعة الغربية فيمكنها تقديم مساهمة كبيرة في بناء محطات الطاقة التي يحتاج إليها العراق.
يضاف إلى ذلك أن تعزيز التعاون والمصالح المتبادلة في مجالات النقل والتجارة والاستثمارات وأنابيت نقل النفط يساعد على التخفيف من مشكلتي نقص المياه والجفاف، لأن القسم الأكبر من مصادر المياه العراقية يأتي من تركيا وإيران. فمع تزايد المصالح المتبادلة تلين عادة المواقف السياسية من قضايا شائكة ومعقدة مثل مشكلة المياه.
برامج طموحة لجذب المستثمرين
من خلال التصريحات والبرامج المعلنة والنقاشات المحتدمة تبدو الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني والرأي العام والنخب الداعمة لها على وعي بالمخاطر التي تهدد مستقبل الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على ربع ثروة باطنية ناضبة.
وعلى ضوء ذلك لم تكتف الحكومة بطرح مشاريع مشتركة مع الجيران مثل “طريق التنمية” و “خط التجارة العربي”، بل يجري الحديث عن إعداد برنامج متكامل يهدف “لإعادة تأهيل البنية التحتية ومشاريع الري وصناعات أساسية وجذب المستثمرين الأجانب للمساهمة فيها”.
وفي هذا الإطار يندرج التوقيع مؤخرا على اتفاق مع شركة توتال الفرنسية بقيمة 27 مليار دولار لتطوير حقوق النفط واستغلال الغاز المصاحب لاستخراج الذهب الأسود ودخول مجال الطاقات المتجددة.
هل يدخل المعنيون في شراكة حقيقية؟
يدعم برامج الحكومة العراقية التنموية إقرار أضخم ميزانية في تاريخ البلاد بقيمة تزيد على 150 مليار دولار. كما يدعمه توفر احتياطات مالية جيدة تقدر بنحو 90 مليار دولار بفعل ارتفاع أسعار النفط وزيادة الصادرات من الذهب الأسود خلال العامين الماضيين.
بيد أن المال لوحده لايكفي لتحديث الاقتصاد العراقي وجعل العراق محورا أو أحد محاور النمو والتنمية في الشرق الأوسط. فمثل هذا النجاح الاقتصادي مرتبط بتوفير ضمانات من شأنها عدم ترك الخلافات بين الكتل السياسية العراقية الرئيسية تتحكم في مستقبل المشاريع الوطنية التنموية المطروحة على صعيد البناء والتمويل والتشغيل كما حدث خلال العقدين الماضيين.
وفي سياق متصل فإن تنفيذ المشاريع المطروحة بالتعاون مع الجيران مرتبط بنجاح التقاربات السياسية والتوافقات الإقليمية التي بدأت مؤخرا بالمصالحة السعودية الإيرانية.
ونظرا إلى التكاليف الضخمة لهذه المشاريع فإن مساهمة دول غنية كالسعودية وقطر والإمارات في تمويلها ضروري لتنفيذها وتشغيلها بشكل ناجح ومجدي ومستدام. وهنا لا بد من التأكيد على إشراك القطاع الخاص في هذه المشاريع من خلال شراكات تساهم بها الدولة وشركات عالمية تتمتع بالخبرات اللازمة.
سياسة توازن تبشر بالنجاح
يشهد العراق هذه الأيام استقرارا سياسيا لم يشهده منذ فترة طويلة. ويدعم هذه الانفراج سياسة الحكومة التي تقوم على التوازن في العلاقات بين القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية وبين القوى الخارجية الأكثر تأثيرا في العراق وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران.
كما يدعمه ارتفاع أسعار النفط وفوائض الميزانية التي تسمح بتخصيص أموال لمشاريع ترضي مختلف القوى وتراعي مصالحها مثل توظيف الآف الشباب العاطل عن العمل والمحسوبين عليها في مؤسسات الدولة. كما أن التوصل إلى اتفاق مع إقليم كردستان بشأن تصدير النفط المحلي هناك عبر تركيا، والتقارب السعودي الإيراني يخدم الاستقرار المذكور في المدى المنظور.
على ضوء ذلك يمكن القول أن الحكومة العراقية بسياستها الحالية تتجه إلى تحقيق نجاحات ملموسة تتمثل في دفع الاقتصاد العراقي نحو تنمية تقوم على تنويع مصادر الدخل والتخلص من التبعية للنفط. كما تتجه نحو تحويل الاقتصاد العراقي إلى أحد محاور النمو في الشرق الأوسط.
ومن المؤشرات على ذلك تسجيل العراق خلال العام الماضي أحد أعلى معدلات النمو في العالم بنسبة زادت على 9 بالمائة حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية. ومؤخرا تم الاتفاق مع إيران على ضمان استقرار توريدات الغاز الإيراني، كما يجري العمل لتنفيذ مشروع مع السعودية للربط الكهربائي بين البلدين.
ومؤخرا أعلن وزير الطاقة الإيراني عن اتفاق مع الجانب العراقي لحل الخلافات مع بغداد حول المياه. وتفيد مصادر رسمية عراقية أن الحكومة التركية تتجاوب حاليا بشكل إيجابي مع مطالب العراق بخصوص إطلاق المزيد من مياه النهرين نحو الأراضي العراقية ومع سعيه للتوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص.
المصدر هيئة الاذاعة الألمانية