مذكرات ظريف: خمس استقالات ودعوة إلى البيت الأبيض
أصدر وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف كتابًا جديدًا تناول فيه المسؤوليات السياسية والدبلوماسية التي تولّاها منذ أن بلغ 19 عامًا وحتى 51. وبحكم أن أبرز مسؤولياته في تلك الفترة كانت توليه منصب وزير الخارجية 2013- 2021، فإن هذه الفترة حظيت بحصة الأسد من الكتاب.
يسرد ويكشف ظريف في الكتاب أحداثا كثيرة تُظهر سعيه للدفاع عن مكانة وزارة الخارجية في منظومة صنع القرار الإيراني، ولعل أبرز ما ورد في هذا الإطار حديثه عن أربع استقالات غير تلك الشهيرة عندما زار الرئيس السوري بشار الأسد طهران عام 2019. انطلاقا من ذلك، يبدو أن عبارة “پایاب شکیبایی” أي “طاقة الصبر” التي عُنون بها الكتاب، جاءت إشارة للجهود التي تحملها الوزير السابق خلال تلك السنوات الثمانية. ويرجع أصل العبارة إلى أحد أبيات الشعر الغزلية لحافظ الشيرازي، حيث يقول: “مشتاقی و مَهجوری دور از تو چنانم کرد.. کز دست بخواهد شد پایابِ شکیبایی”. أي “بعيد عنك ما يفعل مشتاق ومهجور مثلي.. وطاقة الصبر تنفذ من يدي”.
في الكتاب الصادر عن دار “اطلاعات” للنشر، يشرح ظريف عن انتقال القوة الاقتصادية العالمية من أوروبا إلى آسيا، وحضور الدول الآسيوية النامية ضمن القوى الاقتصادية الأقوى في العالم، كاليابان، الصين والهند، مما دفع الولايات المتحدة لتحويل تركيزها عن الشرق الأوسط. ويرى ظريف أنّ إيران بإمكانها بناء مكانة عالمية، والعمل على نظام واستقرار المنطقة والنظام العالمي عبر الفهم الصحيح لقدراتها ونقاط قوتها وضعفها التاريخية، المادية والمعنوية، والعمل على توسيع مشاركتها باتباع نهج الحوار والتواصل والدبلوماسية.
مهام ومسؤوليات قبل وزارة الخارجية
تولّى ظريف كما يذكر الكتاب مسؤوليات عدة، منذ أن كان متطوّعًا فخريًا في القنصلية الإيرانية في مدينة فرانسيسكو، ثم مسؤولًا فخريًا لنقل قنصلية فرانسيسكو بعد قطع العلاقات بين طهران وواشنطن، مرورًا بمواقع كثيرة، كمستشار وزير الخارجية وكبير المفاوضين عند صياغة قرار مجلس الأمن رقم ٥٩٨ لوقف الحرب بين العراق وإيران، رئيس ومتحدث منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران، سفير إيران الدائم في الأمم المتحدة وكبير المفاوضين النووين في مفاوضات إيران مع الدول الأوروبية الثلاث.
عام 2012، ومع قرب رحيل حكومة الرئيس احمدي نجاد، شارك ظريف في الندوات التحضيرية للانتخابات الرئاسية، حيث أكد على ضرورة اتخاذ مسار دبلوماسي وبسط النهج الحواري مع العالم لرفع العقوبات والاستفادة من الفرص والإمكانات، وحل مشاكل الاقتصاد الإيراني.
وذكر ظريف أنّ الرئيسين روحاني وخاتمي قبل بدء الترشح لانتخابات عام 2013 الرئاسية، أخبراه أنهما سيوليان حقيبة الخارجية له في حال مشاركة أو فوز أحدهما في انتخابات الرئاسة عام 2013، لكن جوابه كان الرفض. ثم عاد روحاني لاقتراح الوزارة عليه قبيل الانتخابات لكنه رفض ثانية وثالثة ورابعة، ثم أعاد روحاني إصراره على الأمر بعد فوزه وتوليه الرئاسة، فتوجّه ظريف إلى منزله وواجه هناك ضغوطات من زوجته وأبنائه، حيث حثوه على تولي المسؤولية والعمل على تحقيق مصالح البلاد والناس، من خلال رفع العقوبات والتخفيف من آلام الناس ومعاناتهم، وهو ما كان له أثر كبير بتغيير رأي ظريف.
وقال ظريف في كتابه إنّ أول ما أقدم عليه بعد تولّيه وزارة الخارجية هو إجراء تغييرات في ديكور وتصميم قاعات الاجتماعات وأروقة وزارة الخارجية لإضفاء الطابع التاريخي والثقافي للحضارة الفارسية، وهو ما لم يتم الالتفات له سابقًا.
وأضاف ظريف أنّ أول قرار أصدره هو إلغاء اثنين من مراسم وزارة الخارجية، وهما لقب “المسؤول الأعلى للوزارة” الذي كان يطلق على وزير الخارجية في الكتب الداخلية، والثاني هو الهدايا التي كان يقدمها السفراء لوزير الخارجية ومرافقيه خلال زيارته للسفارات الإيرانية في الخارج، أو أثناء زيارة السفراء لإيران، وهو ما كان يتم تسديد ثمنه أحيانًا من ميزانيّات السفارات أو من الأموال الشخصية للسفراء. هكذا منع ظريف الهدايا للسفير تحت أي عنوان.
أما عن دور المرأة في وزارة الخارجية الإيرانية، فيشير ظريف إلى أنّ هناك عشرات النساء الموظّفات في وزارة الخارجية تمتّعن بمؤهلات علمية وتجارب وخبرات عملية ممتازة، لكن حضورهن في الفريق الدبلوماسي أو السفارات الخارجية كان ضعيفًا بسبب النظرة الأجنبية السيّئة لإيران.
وسعى ظريف لتوسيع حضور المرأة في الأروقة الدبلوماسية لوزارة الخارجية الإيرانية، حتى استطاع خلال ثماني سنوات تعيين خمس نساء كسفراء للبلاد، كما تم تعيين العديد من النساء بمنصب مستشار أوّل في السفارات الخارجية.
وأورد ظريف أنه عمل على الاستفادة من الخبراء من الطائفة السنية في وزارة الخارجية، فعيّن سفيرين من السنّة، هما صالح اديبي من محافظة كردستان والسيدة حميرا ريكي.
العلاقة مع خامنئي
يعطي الدستور الإيراني للقائد الأعلى صلاحية تحديد الخطوط الحمراء في السياسة الخارجية للبلاد، وهنا يؤكد القائد الأعلى آية الله علي خامنئي على ثلاثة أصول أساسية في السياسة الخارجية لإيران وهي: العزة، الحكمة، والمصلحة.
ويعتبر خامنئي أنّ العزة هي أساس السياسة الخارجية، بينما الحكمة والمصلحة هما الطريق للوصول للعزة.
ويلفت ظريف إلى أنّ حساسية خامنئي تجاه الملفّ النووي تنبع من العزّة، وهو ما يمكن فهمه، في حين لا يمكن فهم عناد إيران في برنامجها النووي و تحمّلها الضغوط القصوى إلا إذا كان الهدف هو الوصول إلى الأسلحة النووية.
ويروي ظريف تاريخ علاقته بالقائد الأعلى منذ أن بدأت عندما كان قائمًا بأعمال ممثلية إيران الدائمة في الأمم المتحدة وأتى خامنئي إلى واشنطن عندما كان رئيسًا لإيران، حيث قدم ظريف له تقارير عدة عن قرار مجلس الأمن 598.
سقوط الطائرة الأوكرانية وقصف عين الأسد
وجاء في كتاب ظريف أنه في تمام الساعة 4:30 فجر الأربعاء 8 كانون الثاني/ يناير 2020، علم بقصف قاعدة عين الأسد من معاونه عباس عراقجي الذي تم إيقاظه الساعة الثالثة فجرًا من قبل المجلس الأعلى للأمن القومي ليوصل رسالة فورية للولايات المتحدة عبر السفير السويسري في طهران، فأبلغ عراقجي السفير السويسري بالرسالة، لكن يبدو وفق ظريف أنّ الأميركيين كانوا يعرفون بأمر الضربة العسكرية لعين الاسد قبل حدوثها وقبل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية، حيث تم إبلاغهم بالضربة عبر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي.
وأشاد ظريف بحكمة إعلام رئيس الوزراء العراقي بالضربة مسبقًا، لكنه استغرب عدم إبلاغ الرئيس الإيراني ووزير الخارجية.
أما عن سقوط الطائرة الأوكرانية، فقال ظريف إنه بينما كان منهمكًا وزملاءه في الخارجية بمراسلة السفير السويسري والأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن الدولي بشأن حادثة قصف قاعدة عين الأسد، علموا من الشبكة العنكبوتية بحادثة سقوط الطائرة الأوكرانية، في حين أنّ الأخبار الرسمية وحتى تلك السرية التي وصلت وزارة الخارجية أكدت أنّ الطائرة سقطت بحادث أليم نتيجة نقص فني.
وعلّق ظريف: “في ذلك اليوم تلقّيت اتصالات من وزراء خارجية كندا وأوكرانيا، اللذين طالبا بإجراء تحقيق في الحادثة، وكان ردّنا بالطبع إيجابيًا، لكن وزير الخارجية الأوكراني أشار خلال حديثه صراحة وضمنًا إلى احتمالية وقوف روسيا وراء هذه الحادثة، لكننا تفهّمنا هذا الأمر على أنه في سياق المنازعات الروسية – الأوكرانية، ومع ذلك أبلغنا المسؤولين بالأمر”.
لكن ظريف لم يتوقف عن متابعة المسألة، واتصل بروحاني وحثه على التدخل أكثر لاستيضاح الحادثة، حيث عقد الرئيس اجتماعًا استثنائيًا في مقرّ المجلس الأعلى للامن القومي بحضور أمين المجلس ورئيس الأركان ووزير الطرق ووزير الخارجية، لكن الجميع أصرّ على فرضية النقص الفني في الطائرة، وهنالك تصرّف أحد مساعدي أمين المجلس بطريقة غير مؤدّبة ومن دون احترام الأعراف الدبلوماسية والتراتبية الإدارية وافتعل شجارًا مع وزير الخارجية، بعد انفعال الأخير أثناء كلامه عن الضجة الغربية بشأن سقوط الطائرة الأوكرانية.
واتّضحت المسألة بعد يوم من الحادثة، حين تلقى مساعد وزير الخارجية عباس عراقجي اتصالًا من المجلس الأعلى للأمن القومي علم فيه بأنه سيتم نشر بيانٍ في اليوم التالي عن السبب الحقيقي لسقوط الطائرة، وقد اعتبر ظريف أنّ القوّات المسلّحة تحمّلت هذه المسؤولية وأعلنت بشجاعة أنّ حادثة السقوط نتيجة خطأ بشري أدى إلى إطلاق صاروخ من منظومة دفاع جوي إيرانية.
استقالات متكرّرة
بحسب الكتاب، فكّر ظريف بالاستقالة مرّات عديدة، وقدّمها بالفعل مرات عديدة أيضًا، من دون أن تكون أي منها لأسباب شخصية، إنما بهدف حفظ هوية وزارة الخارجية أو بيان عدم القدرة على تحمّل الواقع.
يتذكّر ظريف أنّ أوّل استقالة كانت عام 2013 لدى زيارة الرئيس الإيراني إلى نيويورك، بعدما عمل بعض معاوني الرئيس على محاولة تحويل قمة وزراء خارجية الدول 5+1 مع إيران إلى قمة رئاسية من دون التنسيق مع وزير الخارجية، مما جعله يستاء ويفكّر في الاستقالة لوضع حد لسوء التنظيم والتفرّد في القرارات.
المرة الثانية جرت لثلاثة أسباب، فعندما كان يستعد للتوجه إلى فيينا لاستكمال المباحثات النووية عام 2013، تفاجأ بخطة جديدة تتحدث عن أدنى سقف للاحتياجات النووية لإيران، تم تقديمها لقادة البلاد وحُكم في مضمونها على المفاوضات النووية بالفشل، وفي ذات الوقت زارت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي كاترين اشتون إيران والتقت بجمع من النساء الإيرانيات الناشطات في مجال حقوق المرأة، فقامت معاونة أحد الوزراء بتقديم تقرير غير صحيح عن هذا اللقاء لقادة البلاد بهدف إبعاد التقصير عن وزارتها، مما أدى إلى ضجة في البلاد. أما السبب الثالث فهو عدم دفع مستحقات الشهر الأخير من العام الإيراني لموظّفي الخارجية، رغم ما ساهمت به هذه الوزارة من رفد الخزينة العامة بمبلغ 600 مليون دولار شهريا، وهنا كتب ظريف قبل سفره رسالة لروحاني يخبره فيها بما يجري ويعلمه بأنه لن يبقى وزيرًا للخارجية بعد عودته، وبأنه على الرئيس إيجاد بديل حتى ذلك الوقت.
أما المرة الثالثة فكانت بسبب عدم التنسيق وسوء التنظيم في عمل الوزارات الأخرى تجاه العقود والتفاهمات المبرمة من قبل وزارة الخارجية مع الدول الأخرى، خاصة روسيا.
رابع الاستقالات كانت خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى إيران عام 2019، وقد أحدثت هذه الاستقالة ضجة في الرأي العام العالمي، وحاول البعض استغلالها سياسيًا، كوزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اللذين عبّرا عن فرحهما بالاستقالة.
ووفق ظريف، فإنّ زيارة الأسد كانت مقرّرة مسبقًا بالتنسيق مع الجنرال قاسم سليماني، حيث اجتمع الرجلان وتوافقا على الأمر، ثم نسّق ظريف مع روحاني، لكنّ الزيارة لم تتم في حينها لأسباب عدة، وأتى الأسد إلى إيران في وقت آخر من دون إعلام وزير الخارجية، الذي علم بالأمر عبر المواقع الإلكترونية.
وحصلت الاستقالة الخامسة بعدما قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقترحًا لإيران، وكان رأي وزارة الخارجية هو التعامل مع هذه الخطة عبر الدبلوماسية، لكن المجلس الأعلى للأمن القومي والحكومة خالفا هذا التوجّه بلهجة حادة.
ترامب يدعو ظريف لزيارته في البيت الأبيض
يتحدث ظريف في كتابه عن فترة ما بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، حيث بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بممارسة أقصى الضغوط الاقتصادية بهدف تدمير إيران أو اجبارها على قبول المطالب الأميركية، لكن صبر الشعب الإيراني وتحمل الضغوط والإدارة الوطنية الرشيدة للأزمة هزمت إرادة الأميركيين، على حد تعبير وزير الخارجية الإيراني السابق، فحاول ترامب في مطلع عام 2019 جرّ قدم إيران إلى المفاوضات مجددًا بالطرق الدبلوماسية وفق نظرتها وشروطها.
ومن هذه المحاولات دعوة ترامب لظريف للقاءه في البيت الأبيض، والتي تمت عبر صديق ترامب المقرّب السيناتور الجمهوري رند بال، الذي نقل لظريف استعداد ترامب للتفاوض على رفع العقوبات النفطية عن إيران وفق آلية “الخطوة بخطوة”، شرط عودة إيران لالتزاماتها في الاتفاق النووي وبسط الاستقرار في الخليج.
بعد إصرار حامل الدعوة، أخبره ظريف أنه سيستشير القيادة في طهران، لكنه عبر له قناعته بأنّ قبول دعوة ترامب مسألة صعبة، كما أنه لم يغلق باب الحوار وقدّم عددًا من المقترحات للخروج من المأزق، مؤكدًا أنّ الأمن في الخليج غير ممكن من دون السماح لإيران ببيع نفطها من دون إزعاج وكذلك استلام عوائد هذا البيع.
وأخبر السيناتور الأميركي ظريف بنية ترامب فرض عليه عقوبات عليه بعد ثلاثة أسابيع في حال عدم قبول الدعوة، لكنّ الوزير الإيراني لم يهتمّ بالأمر، وهو ما تحقق فعلًا.