القطار لا ينظر إلى الوراء

القطار لا ينظر إلى الوراء

كان علي الوردي، في طفولته، يراقب القطار وهو يشق الأرض كقدرٍ محتوم، يسرع بلا التفات، يمرّ كأنه لا يرى الحجارة التي تلاحقه، كأنه يعرف أن من يبقى على الرصيف لن يدرك أبداً سرّ الحركة. رأى الأطفال يرمون الحجارة على عرباته المسرعة، لا لشيء إلا لأنه لا يتوقف لهم، لا يمنحهم الفرصة ليقفزوا إلى داخله، لا يبرر لهم وجهته.

كبر الوردي، وكبرت معه الفكرة: الناجح كالقطار، يواصل سيره، يترك خلفه الصخب والضجيج، لا يتوقف ليرد على أصواتٍ لا تعرف إلا القذف، ولا يعبأ بمن اختاروا أن يكونوا حجارةً بدلاً من أن يكونوا مسافرين. في المجتمعات التي تخشى التغيير، يتحول كل شيء سريع إلى عدو، وكل من يسبق الآخرين في المسير يصبح هدفًا للمطاردة. فكيف إذا كان هذا التقدم بالكلمة، بالفكرة، بالإبداع؟ كيف إذا كان من يسبقهم لا يحمل سوى صوته؟

اليوم، لم يعد القطار من حديدٍ ونار، صار فكرةً تمضي في فضاءٍ أوسع، في شاشاتٍ مضيئة حيث الكلمات تتسابق، حيث المبدع هو القطار الجديد، وأولئك الذين يرشقونه بالحجارة هم ذاتهم الذين وقفوا بالأمس على الرصيف، يرمون القطارات المسرعة، يصرخون على ما لا يستطيعون اللحاق به، يحاربون ما لا يفهمونه.

في الأزمنة الرقمية، الحجارة كلمات، والتهم قذائف تُطلق من خلف شاشاتٍ لا وجه لها، من عقولٍ أبت أن تتحرر من طفولتها الفكرية. يكتب المبدع جملته، فيخرج له من يلاحقه، لا ليقرأ، بل ليسخر، لا ليحاور، بل ليهدم. يعلّق بتفاهة، يصرخ في الفراغ، وكأنه إن رمى حجراً على قطار الكلمات، سيوقفه عن الحركة. لكن المبدع لا يتوقف، والمثقف لا ينحني، والفكرة الحقيقية لا تموت تحت وطأة صراخٍ أجوف.

القطار لا يعود إلى الوراء، ولا يفتح أبوابه لمن اختاروا أن يكونوا حجارة. هو يمضي، يترك خلفه الساخرين والغارقين في أوهامهم، الذين يعتقدون أن الضجيج سيغير مساره، أن القذف سيبطئ سرعته. لكن الحقيقة تبقى: لا أحد يوقف الفكرة إذا انطلقت، ولا أحد يسقط المبدع إذا قرر أن يكون قطارًا.

علي الوردي فهم هذا القانون مبكرًا. رأى الأطفال يرمون الحجارة، لكنه لم يرَ قطارًا يتوقف. هكذا هم الناجحون، يتركون لمن يقف على الرصيف حق الصراخ، ويمضون حيث لا يستطيع الصدى اللحاق بهم.

اللواء الدكتور سعد معن

تابعونا عبر تليغرام
Ad 6
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com