استراتيجية المزدوجة التي يتبعها الجيش السوداني.. البرهان يتبنى التضليل لصرف انظار العالم عن الجرائم بحق المدنيين

في الوقت الذي يشهد فيه السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث، برزت مؤشرات متزايدة على تبنّي القيادة العسكرية لنهج تضليلي ممنهج، يتعمد صرف أنظار العالم عن الفظائع المرتكبة بحق المدنيين، عبر ترويج روايات إعلامية لا تعكس واقع المعاناة على الأرض.
هذه الاستراتيجية المزدوجة التي يتبعها الجيش السوداني تقوم على تصدير سرديات زائفة للخارج، مستغلاً المنصات الدولية، ليس لتقريب الحل، وإنما لتشتيت التركيز عن مسؤوليته في إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاق المأساة.
انتهاكات ممنهجة وتجاهل صارخ للقانون الدولي
ورغم أن القوات المسلحة السودانية طرف مباشر وأساسي في النزاع، فإنها اختارت توظيف واجهتها الرسمية في المحافل الدولية لتسويق سرديات جانبية، تُغفل عمداً وقائع موثقة حول انتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم حرب، وبينما يُفترض بتلك القوات أن تلتزم بأطر القانون الدولي الإنساني، فإن السلوك الميداني لقادتها يعكس تجاهلاً كاملاً للمواثيق والمعايير الأخلاقية، وهو ما أكدته تقارير الأمم المتحدة وشهادات شهود العيان، فضلاً عن مقاطع مصورة ومعلومات مستقاة من منظمات حقوقية مستقلة.
وفي مشاهد متكررة ومروعة، وُثقت عمليات إعدام ميدانية نفذتها قوات الجيش في مناطق استعادتها من قوات الدعم السريع، تحديداً في الخرطوم وجبل أولياء، حيث جرى استهداف مدنيين بمجرد الاشتباه بتعاطفهم مع الطرف الآخر، وقد أبدى مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، صدمة بالغة إزاء هذه الانتهاكات، داعياً الجيش إلى وقف فوري لتلك الممارسات التي وصفها بالحرمان التعسفي من الحياة.
استخدام أسلحة محرّمة وصفقات مشبوهة
ليست الإعدامات وحدها ما يثقل كاهل ملف الجيش السوداني، بل تؤكد مصادر موثوقة استخدامه أسلحة محرمة دولياً، بينها مواد كيميائية، في هجمات على مناطق مأهولة بالسكان، وقد أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن مسؤولين أمريكيين أكدوا استخدام هذه الأسلحة في أكثر من مناسبة خلال المعارك مع قوات الدعم السريع، وهو ما وصفوه بجرس إنذار خطير لاحتمالات تكرار استخدام هذا النوع من السلاح في مناطق أخرى، كما دعت المفوضية الأوروبية لتوسيع نطاق حظر الأسلحة ليشمل السودان بأكمله، لكن لم يترتب على ذلك أي إجراء حاسم حتى اللحظة.
في ظل هذه الانتهاكات، بدا واضحاً أن القيادة العسكرية لا تكتفي بإطالة أمد الحرب، بل تسعى إلى تدويل النزاع عبر إبرام صفقات خلف الكواليس مع أطراف إقليمية ودولية، وثائق استخباراتية كشفت عن شحنات أسلحة أرسلتها إيران إلى السودان في مارس الماضي، عبر طائرة شحن خاضعة للعقوبات، حملت طائرات مسيّرة وصواريخ متطورة، مقابل وعود بمنح قواعد عسكرية وموانئ استراتيجية بعد الحرب، كما أن الجيش السوداني، في هذا السياق، لا يبدو طرفاً معنياً بالسيادة الوطنية بقدر ما هو طرف يسعى لتأمين بقاءه عبر تفكيك الدولة من الداخل وإغراقها في لعبة المحاور الدولية.
المفارقة أن هذه المؤسسة التي تتحدث عن مؤامرات خارجية وتتهم أطرافاً أجنبية بدعم خصومها، هي ذاتها المتورطة في إدخال السلاح الأجنبي وتوقيع تفاهمات أمنية مع قوى دولية من أجل حسم الصراع عسكرياً، على حساب ملايين المدنيين، ولعل تصريحات القائد العسكري عبد الفتاح البرهان وذهابه لطرح قضايا أمام محكمة العدل الدولية، تندرج ضمن محاولات مكشوفة للظهور بمظهر الضحية، في الوقت الذي تطال فيه الاتهامات الشخصية ضده بارتكاب جرائم حرب، وهو ما دفع واشنطن إلى إدراجه على قوائم العقوبات في يناير 2025، بموجب الأمر التنفيذي 14098.
وتتعقد المأساة أكثر مع تعمُّد الجيش عرقلة قوافل الإغاثة، وفرض طوق خانق على المساعدات الدولية، ما أسهم في تفاقم المجاعة في أنحاء عدة من السودان. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن نحو 30 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينهم ما يقرب من 600 ألف يواجهون المجاعة فعلياً، وفي تقرير صادم لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، جاء التحذير من أن السودان على أعتاب “أسوأ أزمة جوع في العالم” نتيجة لاستخدام الحصار الغذائي كسلاح ضد السكان.
جهود إقليمية معرقلة وأفق سياسي مسدود
كل هذا يحدث في وقت تُبذل فيه جهود حثيثة من المجتمع الدولي، وعلى رأسه دولة الإمارات العربية المتحدة، لإرساء تسوية سياسية تُعيد البلاد إلى المسار المدني، الإمارات، التي لطالما كانت من أبرز الداعمين للسودان إنسانيًا، قدمت ما يفوق 3.5 مليار دولار كمساعدات إنسانية خلال العقد الماضي، بينها 600 مليون دولار منذ اندلاع الصراع الحالي، ومع ذلك، قابلت القيادة العسكرية هذه المبادرات بالرفض المتكرر، مقاطعة المؤتمرات الدولية ذات الصلة، ومعطلة لأي مسعى لإيقاف إطلاق النار أو فتح ممرات آمنة للمساعدات.
السودان في مفترق حاسم
من هنا، يبدو أن الجيش السوداني يعوّل على عامل الوقت، مستخدماً أدوات التضليل الإعلامي والدبلوماسية الانتقائية لكسب مزيد من الحصانة ضد المحاسبة الدولية، فيما تتراكم الأدلة والوثائق التي ستتحول عاجلاً أو آجلاً إلى لوائح اتهام أمام العدالة الدولية، وإن الأزمة في السودان لم تعد فقط نزاعاً داخلياً بين أطراف مسلحة، بل أصبحت مأساة إنسانية كبرى، تُملي على المجتمع الدولي تحركاً أكثر حزماً لوقف نزيف الدم وإعادة الاعتبار لحق الإنسان السوداني في الحياة والكرامة.